على تلال تركيا الخضراء بالقرب من مدينة مودورنو في محافظة بولو، تتربع بقايا مشروع ضخم يحمل اسمًا يبعث على البهجة والسحر: “مدينة ديزني التركية”. ومع ذلك، فإن هذه المدينة ليست سوى حلم مجمّد في الزمان، مزيج من الطموحات الاقتصادية الكبيرة التي تحطمت، والأجواء القاتمة التي تحيط بمئات القصور المهجورة التي تشبه قلاع ديزني في القصص الخيالية. قصة هذه المدينة ليست مجرد حكاية عن مشروع اقتصادي فاشل، بل هي عبرة تجمع بين الطموح، والجشع، وسوء الإدارة.
البداية الواعدة لمشروع مدينة ديزني التركية
في أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كان الاقتصاد التركي يعيش فترة من الازدهار النسبي. ووسط هذه الأجواء الإيجابية، ولدت فكرة إنشاء “مدينة ديزني التركية”. المشروع كان من تخطيط شركة “ساروت” Sarot Group، وهي مجموعة استثمارية متخصصة في التطوير العقاري والبنية التحتية. كانت الرؤية تتمثل في بناء مجمع سكني فاخر يجذب النخبة التركية والمستثمرين الأجانب، خصوصًا من دول الخليج العربي.
المشروع، الذي أُطلق عليه اسم “بورصة مودورنو”، كان يهدف إلى بناء أكثر من 700 فيلا فاخرة، كل منها مستوحى من الطراز المعماري الأوروبي الكلاسيكي، مع قمم مدببة تشبه تلك الموجودة في قلاع ديزني. إضافة إلى ذلك، شمل المشروع مركزًا تجاريًا ضخمًا، وحدائق، ومرافق ترفيهية. كان التصميم أشبه بمدينة الأحلام حيث يمكن للسكان العيش وسط رفاهية فريدة من نوعها.
الطموح الاقتصادي الكبير
تم الترويج للمشروع كفرصة استثمارية ضخمة. الموقع الجغرافي للمشروع لعب دورًا محوريًا في الترويج له؛ إذ يقع بين إسطنبول وأنقرة، مما يجعله مكانًا مثاليًا لمن يرغب في الهروب من صخب المدن الكبرى دون الابتعاد عنها كثيرًا. كما أن القرب من ينابيع المياه الحارة في بولو زاد من جاذبية المشروع.
استهدف المشروع الطبقة الثرية، خصوصًا المستثمرين من دول الخليج الذين كانوا يبحثون عن عقارات فاخرة في تركيا. وبدأت الحملة التسويقية بشعارات مغرية، ركزت على تحويل الأحلام إلى حقيقة، مع وعود بعوائد استثمارية مغرية.
علامات الإنذار الأولى
رغم الحماس الكبير الذي أحاط بالمشروع، بدأت تظهر بعض المؤشرات التي تنذر بالخطر. المشروع كان يعتمد بشكل كبير على الأموال المستثمرة مسبقًا، ولكن الشركة المنفذة واجهت صعوبة في تأمين تمويل إضافي مع تقدم البناء. كان ذلك في وقت بدأت فيه الأزمة الاقتصادية العالمية تلقي بظلالها على الأسواق، ما أثر على الاقتصاد التركي أيضًا.
من ناحية أخرى، تعرض المشروع لانتقادات بسبب تصميماته. القصور، رغم أنها تبدو جذابة في الصور، كانت متشابهة تمامًا، مما جعلها تفتقر إلى الإحساس بالفردية. كما أن موقعها في منطقة غير مأهولة نسبيًا أثار تساؤلات حول جدوى المشروع وقدرته على جذب السكان.
السقوط المدوي
بحلول عام 2018، بدأت الأزمات تتفاقم بشكل لا يمكن السيطرة عليه. شركة “ساروت” أعلنت إفلاسها رسميًا، بعدما عجزت عن تسديد ديونها التي بلغت مئات الملايين من الدولارات. توقفت أعمال البناء في المشروع، وترك العمال الموقع، مما أدى إلى ترك مئات القصور نصف مكتملة.
عندما وقفت السلطات التركية في وجه الإفلاس، لم تجد الشركة حلًا سوى إيقاف المشروع بالكامل. أصبحت القصور الفارغة والمهجورة رمزًا للفشل، وشكلت مشهدًا يبعث على القشعريرة أكثر من السحر الذي كان يُفترض أن تمثله.
تحول الحلم إلى كابوس
اليوم، يمكن للزائرين رؤية “مدينة ديزني التركية” كما لو أنها مأخوذة من فيلم رعب. القصور المتناثرة التي تحيط بها الغابات والطبيعة الخلابة أصبحت رمزًا لأحلام محطمة. عندما تسير بين هذه القصور، ترى النوافذ المكسورة، والأبواب المهجورة، والهياكل الإسمنتية التي بدأت تتحلل بفعل الزمن.بعض السكان المحليين يصفون المكان بأنه “مدينة الأشباح”، حيث يزعمون أنهم يسمعون أصواتًا غريبة ليلاً، مما يعزز الأجواء المرعبة للمكان. ومن جهة أخرى، أصبح المكان وجهة للمصورين والمستكشفين الحضريين الذين يبحثون عن الأماكن الغريبة لالتقاط الصور المثيرة.
تأثير الفشل على الاقتصاد المحلي
لم يؤثر فشل المشروع على شركة “ساروت” فقط، بل امتد تأثيره إلى الاقتصاد المحلي. المئات من العمال المحليين فقدوا وظائفهم فجأة عندما توقف البناء. التجار المحليون الذين كانوا يعتمدون على المشروع لبيع المواد والخدمات وجدوا أنفسهم في مأزق.
المنطقة التي كان يُفترض أن تشهد طفرة اقتصادية بفضل المشروع أصبحت الآن مثالًا حيًا على الفشل الاقتصادي. الجهود المبذولة لبيع القصور لم تنجح، إذ إن المشترين المحتملين كانوا قلقين بشأن الوضع القانوني والاقتصادي للمشروع.
الدروس المستفادة
قصة مدينة ديزني التركية هي أكثر من مجرد حكاية مشروع عقاري فاشل؛ إنها درس في كيفية توازن الطموح مع الواقعية. المشروع كان ضحية لتقديرات خاطئة، وإدارة سيئة، وتوقيت غير مناسب. الاعتماد الكبير على المستثمرين الأجانب دون وجود خطة مستدامة، إلى جانب التصميمات التي افتقرت إلى الأصالة، ساهم في انهيار هذا الحلم.
مستقبل مدينة ديزني التركية
رغم أن المشروع يبدو الآن في حالة يرثى لها، إلا أن هناك محاولات لإحيائه. بعض المستثمرين عبروا عن اهتمامهم بشراء القصور وإكمال البناء، لكن التحديات الاقتصادية والقانونية ما زالت تشكل عقبة كبيرة.
في الوقت نفسه، ظهرت أفكار أخرى لتحويل المدينة إلى وجهة سياحية أو موقع تصوير للأفلام والمسلسلات. قد يكون ذلك فرصة لإعادة توظيف الفضاء بطريقة مبتكرة بدلاً من تركه مهجورًا.
مدينة ديزني التركية ليست مجرد مشروع عقاري مهجور، بل هي شهادة على التحديات التي يمكن أن تواجهها المشاريع الطموحة إذا لم تُدار بعناية. في مكان كان يُفترض أن يكون مليئًا بالسحر والفرح، أصبح اليوم مليئًا بالهياكل المهجورة التي تروي قصة أحلام طارت في الهواء.
اقرا ايضا: قصة مدينة الأشباح الصينية: لغز مدن مهجورة في العصر الحديث