لا يوجد أقسى من ثلاث طرق للموت , حرقا غرقا وتجمدا
في أقصى شمال اليابان المعروف بشتائه القاسٍ والشديد ، تقع سلسلة جبال هاكودا مكان ذو جمال مذهل خلاب ، غير أن هذه الجمال الطبيعي يخفي ورائه واحدة من أبشع الحوادث المـأساوية في تاريخ اليابان , قبل أكثر من مئة وعشرين سنة في يناير 1902 وأثناء تدريبات صارمة للجيش الياباني استعدادا لأي حرب محتملة في ظروف الشتاء القاسية , تحطمت سفينة تابعة للجيش الإمبراطوري الياباني تحمل 210 من الجنود ، وعلى اثر ذلك وفي محاولة لنجاتهم في جبال هاكودا , تجمد 199 جندي حتى الموت ولم ينج سوى 11 شخص بنسبة وفاة بلغت 95 في المئة , وثماني من أصل 11 من بقوا على قيد الحياة عانو من ما يسمى قضمة الصقيع والتي أدت في النهاية لبتر أطرافهم , لشدة بشاعة ومأساوية القصة وتفاصيلها تم تأليف عنها روايات وكتب ووثائقيات وحتى أفلام , هذه قصة مسيرة الموت أو كما تسمى رسميا كارثة مسيرة هاكودا
في بداية القرن العشرين ،كانت اليابان تمر باصلاحات جذرية سريعة سياسية واجتماعية وعسكرية، وحولت اليابان من مجتمع إقطاعي إلى قوة صناعية ناشئة. كان الجيش، على وجه الخصوص، حريصًا على تحديث تكتيكاته ومعداته لتتناسب مع تكتيكات القوى الغربية ومعداتها.
وفي ذلك الوقت كانت إمبراطورية اليابانية في حساسية شديدة وصراع مستمر مع الإمبراطورية الروسية . وفي ذلك الوقت كان كلا الطرفين مؤمنان باندلاع حرب بينهما عاجلا أم اجلا وكانت الامبراطورية اليابانية الاكثر اقتناعا بهذا السيناريو بدأ الجيش الياباني بوضع خطط وتدريبات لاي مواجهة عسكرية والتي اذا حدثت ستكون في فترة الشتاء القارس,
تركزت التدريبات في منطقة شمال هونشو عبر هوكايدو . حيث تبين للجيش الإمبراطوري الياباني أنه من الضروري تأمين طريق ثانوي لخطوط الإمداد في حالة تدمير الطرق والسكك الحديدية بسبب قصف من قبل البحرية الروسية . كان خط الإمداد المدروس لهذا الغرض هو طريق هاشينوهي الذي يمر عبر جبل هاكودا في الداخل الياباني . لذلك تم التخطيط للتدريب على عبور المشاة لجبال هاكودا في فصل الشتاء
جبل هاكودا ، يوجد في محافظة أوموري في شمال اليابان، وهو عبارة عن سلسلة من القمم البركانية المعروفة بظروف الشتاء القاسية . حيث تتميز المنطقة بتساقط الثلوج بكثافة والرياح القوية ودرجات برودة قاتلة ، لامر الذي يجعل تلك البيئة صعبة جدا لأي رحلة استكشافية فما أدراك بتدريبات عسكرية
في يناير 1902، و بقيادة الكابتن كاندا انطلق فوج المشاة الخامس المؤلف من 210 رجل ، في تدريب شتوي ممثل بعبور جبال هاكودا والعودة إلى قاعدتهم سالمين في أوموري . كان الهدف الاساسي لهذا التدريب هو اختبار قدرة الجنود على التحمل واستعدادهم للقتال في ظروف الشتاء القاسية .
كان التدريب جزءًا من جهد أوسع نطاقًا من جانب الجيش الياباني للاستعداد للصراعات المحتملة في الأراضي الشمالية ، حيث يمكن أن تشكل فصول الشتاء القاسية عقبة كبيرة. تم تجهيز الرجال بمعدات شتوية، بما في ذلك المعاطف الثقيلة والقفازات والأحذية، وحملوا الإمدادات للرحلة. كان الجنود واثقين من قدراتهم ويثقون في معداتهم وتدريبهم و كانت الروح المعنوية مرتفعة . وفي 23 يناير 1902 ، انطلق الجنود في طقس معتدلاً نسبيًا
اليوم الاول
اليوم الأول وعلى الساعة السادسة صباحا وبخريطة وبوصلة فقط قطع الفوج مسافة طويلة ، ولم يكن هناك ما يشير إلى كارثة قادمة , وصلوا إلى كوتوجي وهو عبارة عن ممر صغير حيث توقفوا لفترة طويلة. ومع عودتهم للمسير ، تغير الجو بشكل مفاجئ بدأت الامطار والثلوج بالهطول وتبتعها رياح سببت نزول حاد في درجات الحرارة , بدأت فرقة الزلاجات في التعثر . تجمدت المؤن التي أحضروها ، مما زاد من معاناة الجنود . طرحت فكرة العودة إلى الموقع , لكن رغم ذلك واصل الكابتن كاندا ورجاله التقدم ، معتقدين أنهم قادرون على هزيمة الطقس والبيئة القاسية بتدريبهم وروح العزيمة القوية لديهم .
ساروا إلى أوماتاتيبا (على بعد كيلومترين من ) وهناك، أصبح الثلج أعمق بكثير، وسقطت فرقة الزلاجات التي تحمل المؤن والوقود لأكثر من ساعة . في الساعة 6 مساءً قرر القائد التخلي عن الزلاجات وأمر مجموعة من الجنود بحمل المؤن وأواني الطهي على ظهورهم . بعد الساعة 8 مساءً، وصلوا إلى غابة هيراساوا ، وهناك حفروا خندقًا في الثلج وخيموا لاستحالة استمارات المسير .
اليوم الثاني
في اليوم الثاني انقلب الطقس بشكل مخيف . مرت عاصفة شديدة على الجبال ، جالبة معها تساقط ثلوج كثيف ورياح عاصفة ودرجات حرارة متجمدة . وجد الجنود 210 نفسهم في موقف لا يحسد عليه ، فهذا الطقس لم يروا مثله من قبل في حياتهم وغير مستعدين لهكذا عاصفة قاسية . في عدة ساعات انعدمت الرؤية بسبب كثافة الثلوج المتساقطة لدرجة أن الجنود صعب عليهم رؤية بعضهم البعض حتى من مسافة قصيرة جدا بل حتى التواصل بينهم أصبح شبه مستحيل . اشتكى الكثيرون من البرودة والتعب , حوالي الساعة الثانية صباحًا قرر ضباط الجيش العودة إلى الموقع ، وأخذوا الخطر المحدق بهم على محمل الجد .
كافح الجنود للبقاء معًا ، حيث تاه بعضهم وانفصلوا عن المجموعة الرئيسية . والثلوج ، التي كانت في البداية مجرد عقبة يمكن السيطرة عليها ، أصبحت الآن هي العدوً مميتً . اضطروا للتخييم في العراء بدون أي شيئ يقيهم من البرد والرياح بسبب أن الجنود الذين يحملون الأدوات الحفر انسحبوا واختفوا بسبب العاصفة .
حاول الكابتن كاندا الحفاظ على النظام وإبقاء رجاله في حركة لتدفئة أنفسهم . ملابس الجنود الشتوية التي كانو يعتقدون أنها مناسبة في البداية أصبحت ثقيلة بسبب تجمدها وتحولت الى عبئ يرهقهم اكثر , بلغت درجة الحرارة -40 درجة تحت الصفر بدأ البرد يتسرب الى ملابسهم حتى أصيبوا بقيمة الصقيع , وعلى اثر ذلك بدأ الجنود في فقدان الوعي بسبب الجوع والارق وبعضهم تجمدوا حتى الموت , كان الرجال منهكين ، وبدأت معنوياتهم في التراجع .
اليوم الثالث
في اليوم الثالث كان مصير الوحدة قد تقرر فعليًا . فقد انخفضت درجة الحرارة إلى 41 درجة تحت الصفر، وهي أدنى درجة حرارة في تاريخ الأرصاد الجوية في تاريخ اليابان . يبدوا أن الامر لم يكن كافيا فقد كانت مفاجئات الطبيعة لا تنهتي حيث تشكلت قوة ضغط منخفض هائلة في السماء فوق الجبل، الامر الذي ولد سقوط كثيف للالثلوج وتكون عواصف قاتلة .
لم يتمكن الجنود الذين بقوا على قيد الحياة من العثور على طريقهم واستمرو في المسير الذي أصبح لا معنى له سوى النجاة . واقترب الجنود المتبقون من الاستسلام للموت . انهار التنظيم ، وتم الحفاظ فقط على الصفوف من خلال تتبع الشخص الذي أمامك . وإذا كنت مرهقًا او متأخرًا قليلاً عن الصف ، فسوف تتخلف عن الركب على الفور وتتوه ، والسقوط يعني الموت . استمرت مسيرة الموت في البرد والجوع والارهاق . في هذه المرحلة، كان معظم جنود الوحدة قد ماتوا ولم يبق منهم سوى 60 إلى 70 من أصل 210 .
اليوم الرابع
مع استمرار العاصفة الثلجية سيطر اليأس على بقية الجنود الذين كان العديد منهم صغارًا وعديمي الخبرة . فقد حوصروا في عاصفة ثلجية ، بلا مأوى وإمدادات متضائلة ومتجمدة . كان البرد يفتك بهم الواحد تلو الاخر , فالرجال الذين كانوا أقوياء وحازمين أصبحوا الآن ضعفاء ومصابين بالهذيان . واستسلم بعضهم لانخفاض حرارة الجسم أثناء نومهم ، ومن المعروف أن نومة البرد هي الاخيرة في حياتك , انهار البقية ببساطة ولم يتمكنوا من النهوض. وكانت وجوه الجنود متجمدة، وكانت أجسادهم مخدرة. وأصبح أمل الإنقاذ يضعف مع مرور كل ساعة.
على اثر ذلك قرر الناجون تنظيم صفوفهم والتفرق الى مجموعتين كل مجموعة ستأخذ طريقها المنفصل الى ان تجد النجدة . وبناءً على ذلك ، قاد كل من القبطان كاناري والقبطان كورايشي مجموعة واحدة وتقدما غير أن القبطان كورايشي أخذ منعطفًا خاطئًا وتاه في الصحراء المتجمدة , اما مجموعة القبطان جاناري فقد كانت تتقدم بدقة نسبية ، غير القبطان جاناري سقط منهكا وبعدما احس بموته المحتم ترك أمرًا ووصية للزعيم غوتو فوسانوسوكي الذي كان يرافقه قال في هذه الوصية : “اتصل بالوحدة الرئيسية واطلب إرسال فريق إنقاذ”. لم يستطع غوتو الوفاء بالوصية حيث فقد وعيه أثناء وقوفه ودُفن في الثلج أثناء السيره أسفل الجبل . عثر عليه فريق إنقاذ وأصبح أول شخص يتم انقاذه . بالرغم من نجاة غوتو،الا انه تم بتر يديه وقدميه بسبب تعرضه لقمة صقيع شديدة .
واثناء عملية انقاذه كان القبطان غوتو يكرر اسم القبطان جاناري . وبناء على ذلك، بحث فريق الإنقاذ في المنطقة وفعلا وجدوا الكابتن جاناري ، الذي كان على وشك الموت . كان باردًا جدًا لدرجة أنه على الرغم من أن فريق الإنقاذ حاول إعطائه حقنة سرعة ، إلا أن جلده كان متجمدًا لدرجة أن إبرة الحقنة انكسرت . وانتهى الامر بوفاته
وأخيراً، سمح استراحة الطقس لفرق الإنقاذ بالمغامرة في الجبال . وما وجدوه كان مشهداً من الدمار التام . فقد تناثرت الجثث على الثلج ، وبعضها دُفن جزئياً بسبب العاصفة . وعمل رجال الإنقاذ، الذين كان العديد منهم من زملائهم الجنود والقرويين المحليين ، بلا كلل لاستعادة الجثث والبحث عن أي ناجين .
تم العثور على معظم الناجين في 31 من يناير في الجرف الذي اختبأت فيه مجموعة الكابتن كورايشي . و تم إنقاذ قائد الكتيبة الرائد ياماجوتشي في نفس الوقت غير أنه توفي في المستشفى في الثاني من فبراير حيث اعتبر الشخص الأكثر مسؤولية عن هذه الكارثة
في نفس اليوم بعد ذلك، تم اكتشاف الناجين المتبقين حيث استطاعوا النجاة بعدما عثروا على أكواخ مهجورة منتشرة في الجبل واختبؤوا فيها. لكن عانى عدة الناجين من إصابات خطيرة استدعت بتر أطرافهم بسبب تجمدها . هناك من بترت ساقه وهناك من بترت اصابعه ويديه , واثناء ذلك تم العثور على ستة أشخاص على قيد لاحياة لكنهم ماتوا أثناء العلاج . كانت البيئة التي يعمل فيها عمال الانقاذ صعبة وباردة بشكل لا يصدق حيث عانى نصف فريق الإنقاذ عانى من قضمة الصقيع , الناجي الأخير، أوهارا جوسوبورو ، تم بتر قدميه وأصابعه وعاش حتى عام 1970 وتوفي عن عمر يناهز 91 عامًا .
في المجموع، توفيا 199 من أصل 210 من رجال في جبال هاكودا . وعُثر على الناجين، بمن فيهم الكابتن كاندا ،في درجات تجمد مميتة و يعانون من قضمة الصقيع الشديدة وانخفاض حرارة الجسم . تم إجلاؤهم إلى المرافق الطبية، حيث تلقوا العلاج ، لكن في مثل هذه الحوادث وبهكذا تفاصيل يصعب على المرء نسيان هذه التجربة والندوب الجسدية والعاطفية للمحنة الاي خلفتها .
كان لحجم كارثة جبل هاكودا تأثير عميق وصادم على الامة اليابانية . أجرى الجيش الياباني تحقيقًا شاملاً في الكارثة ، سعياً إلى فهم ما حدث بالضبط وكيف يمكن منع مثل هذه المأساة في المستقبل .
كشف التحقيق عن عدة عوامل رئيسية ساهمت في الكارثة . أولاً، قلل الفوج من تقدير شدة الظروف الجوية في جبال هاكودا . كانت معداتهم الشتوية، على الرغم من أنها مناسبة للظروف المعتدلة، غير كافية للبرد الشديد والرياح التي واجهوها. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن الجنود مدربين ومؤهلين بشكل كاف للتعامل مع واقع التنقل في عاصفة ثلجية في تضاريس جبلية وعرة . وبناء عليه نفذ الجيش الياباني تغييرات كبيرة على بروتوكولات التدريب والاستعداد . تم تجديد تمارين التدريب الشتوية لتشمل محاكاة أكثر واقعية للظروف الجوية القاسية . كما قام الجيش بتحسين معداته ، وتطوير ملابس ومعدات شتوية أكثر فعالية لحماية الجنود من البرد .
في عام 1971، نشر نيتا جيرو رواية Hakkodasan Death’s Wanderings تتحدق عن قصة هذه المأساة , تم تغيير أسماء الشخصيات وتم تجسيد الكثير من الموقف الصعبة ، في عام 1977، تم إصدار فيلم <هاكوداسان>، المستند إلى هذه الرواية . اشتهر الفيلم بطاقمه الفاخر الذي يضم ممثلين ذكور مشهورين في ذلك الوقت ، بما في ذلك كينيا كيتاوجي وكين تاكاكورا ورينتارو ميكوني وتيتسورو تانبا وكين أوغاتا. تم اختياره كرابع أفضل فيلم في Kinema Junpo في عام 1977 ، وفي العام التالي لإطلاقه، احتل المركز الأول في تصنيفات شباك التذاكر السينمائي الياباني ، محطمًا جميع أرقام شباك التذاكر السابقة
في الأعمال الإبداعية الكورية، تم ذكره في خاتمة عملية Chungmu. تظهر القصة في الوقت الذي يجري فيه الجيش الكوري الجنوبي وقوات الدفاع الذاتي تدريبًا شتويًا مشتركًا. تم ذكرها بشكل طبيعي من الجانب الياباني أثناء التدريب الشتوي بالقرب من جبل هاكودا،
الى اليوم مازلت كارثة جبل هاكودا تشكل صفحة مؤلمة في التاريخ الياباني . أقيمت النصب التذكارية لتكريم الجنود الذين سقطوا . تحولت جبال هاكودا اليوم الى مزار سياحي يجذب الزوار من جميع أنحاء العالم لمشاهدة الجبال الثلجية الخلابة ,ايضا للتعرف على القصة المرعبة التي تخفيها هذه الجبال في طياتها.