بنيامين نتنياهو، أحد أكثر الشخصيات السياسية الإسرائيلية نفوذاً وطولاً في الخدمة، امتدت مسيرته المهنية لعقود من الزمن ولعب دوراً محورياً في تشكيل السياسة الإسرائيلية الحديثة. قصة حياته هي قصة مثابرة ومرونة وإيمان قوي برؤية إسرائيل آمنة ومزدهرة. ولد نتنياهو في عائلة ذات جذور صهيونية عميقة، وقد أبحر عبر الحرب والسياسة والدبلوماسية الدولية، ليصبح شخصية مثيرة للجدال ولكنها حاسمة في السياسة الإسرائيلية والعالمية.
الحياة المبكرة والخلفية العائلية
ولد بنيامين “بيبي” نتنياهو في 21 أكتوبر 1949 في تل أبيب، إسرائيل، لعائلة تربطها علاقات سياسية وأكاديمية قوية. كان والده، بن صهيون نتنياهو، مؤرخًا بارزًا وأحد الشخصيات الرئيسية في الصهيونية التصحيحية، وهي الحركة التي دفعت نحو إنشاء دولة يهودية في أرض إسرائيل التوراتية. كان لعمل بنزيون كباحث في التاريخ اليهودي تأثير كبير على بنيامين الشاب، حيث غرس فيه شعورًا بالقومية اليهودية وأهمية الوطن الآمن للشعب اليهودي.
كانت عائلة نتنياهو مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقضية الصهيونية. كان جد بنيامين لأبيه، ناثان ميليكوفسكي، أيضًا من الصهاينة الأوائل ومناصرًا متحمسًا للدولة اليهودية. وفرت هذه الخلفية العائلية أساسًا قويًا للأيديولوجية السياسية المستقبلية لنتنياهو، وخاصة التركيز على الأمن والقومية.
التعليم والخدمة العسكرية
في عام 1963، انتقل نتنياهو مع عائلته إلى الولايات المتحدة، حيث تولى والده منصبًا تدريسيًا. هناك، التحق نتنياهو بمدرسة شلتنهام الثانوية في بنسلفانيا، حيث تفوق أكاديميًا وكان معروفًا بطبيعته المنضبطة. وعلى الرغم من إقامته في الولايات المتحدة، ظلت العلاقة مع إسرائيل قوية، وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية، عاد نتنياهو إلى إسرائيل للانضمام إلى قوات الدفاع الإسرائيلية في عام 1967.
كانت الخدمة العسكرية لنتنياهو فترة حاسمة في حياته. خدم في ساييرت ماتكال، وحدة القوات الخاصة النخبوية في إسرائيل، حيث شارك في العديد من العمليات السرية. وكانت إحدى أبرز مهامه عملية الجحيم في عام 1968، حيث قاد فريقًا لإنقاذ طائرة مخطوفة في مطار بيروت الدولي. وقد أبرزت هذه المهمة مهاراته القيادية وشجاعته، مما أكسبه التقدير داخل الجيش وشكلت وجهات نظره المستقبلية بشأن الأمن والدفاع.
وقعت المأساة في عام 1976 عندما قُتل شقيق نتنياهو الأكبر، يونتان “يوني” نتنياهو، خلال عملية عنتيبي، وهي مهمة إنقاذ لإنقاذ الرهائن من طائرة مخطوفة في أوغندا. كان لوفاة يوني تأثير عميق على نتنياهو، حيث عززت عزمه على إعطاء الأولوية للأمن القومي. وقد أرجع لاحقًا هذه الخسارة الشخصية باعتبارها تأثيرًا كبيرًا على حياته السياسية وموقفه القوي من مكافحة الإرهاب.
المساعي الأكاديمية والمهنة المبكرة
بعد خدمته العسكرية، تابع نتنياهو تعليمه العالي في الولايات المتحدة. حصل على درجة في الهندسة المعمارية من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) في عام 1975، تلاها درجة الماجستير في الإدارة من كلية سلون للإدارة التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. درس لفترة وجيزة العلوم السياسية في جامعة هارفارد لكنه لم يكمل شهادته. سمح الوقت الذي قضاه نتنياهو في الولايات المتحدة له بصقل فهمه للسياسة الأمريكية والدولية.
منحه إتقان نتنياهو للغة الإنجليزية والوقت الذي قضاه في الولايات المتحدة ميزة فريدة في وقت لاحق من حياته السياسية، مما سمح له بالتواصل بشكل فعال مع القادة الدوليين ووسائل الإعلام العالمية. بعد دراسته الأكاديمية، عمل نتنياهو كمستشار إداري في مجموعة بوسطن الاستشارية، حيث طور مهاراته في التفكير التحليلي والاستراتيجي.
في أوائل الثمانينيات، عاد نتنياهو إلى إسرائيل وانخرط في الدبلوماسية. شغل منصب نائب رئيس البعثة الإسرائيلية في السفارة الإسرائيلية في واشنطن العاصمة من عام 1982 إلى عام 1984 ثم عمل لاحقًا كممثل دائم لإسرائيل لدى الأمم المتحدة من عام 1984 إلى عام 1988. وخلال فترة عمله في الأمم المتحدة، أصبح نتنياهو مدافعًا صريحًا عن إسرائيل، مع التركيز على المخاوف الأمنية، وخاصة التهديد المتزايد للإرهاب. وقد رفعت خطاباته وظهوره الإعلامي من مكانته في الداخل والخارج، مما جعله نجمًا صاعدًا في السياسة الإسرائيلية.
الدخول إلى السياسة
في عام 1988، دخل نتنياهو السياسة الإسرائيلية رسميًا، وانضم إلى حزب الليكود، وهو حزب سياسي من يمين الوسط تأسس على مبادئ الصهيونية التصحيحية. انتُخب لعضوية الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) وشغل منصب نائب وزير الخارجية في عهد رئيس الوزراء إسحاق شامير. وقد جعلته خبرة نتنياهو في الدبلوماسية ودفاعه القوي عن الأمن الإسرائيلي شخصية بارزة داخل حزب الليكود.
كان صعود نتنياهو داخل الليكود سريعًا. في عام 1993، بعد تقاعد شامير، انتُخب زعيمًا للحزب. في ذلك الوقت، كانت إسرائيل منقسمة بشدة بشأن اتفاقيات أوسلو، وهي سلسلة من الاتفاقيات التي تهدف إلى تحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. كان نتنياهو منتقدًا شرسًا للاتفاقيات، بحجة أنها تعرض أمن إسرائيل للخطر. وقد لاقت معارضته لعملية السلام صدى لدى العديد من الإسرائيليين الذين خشوا عواقب التنازلات الإقليمية، مما ساعده في الحصول على دعم كبير.
أول فترة له كرئيس للوزراء (1996-1999)
في عام 1996، صنع نتنياهو التاريخ عندما أصبح أصغر رئيس وزراء لإسرائيل في سن 46 عامًا. كان فوزه في الانتخابات ضيقًا، حيث فاز بأقل من 1٪ ضد شمعون بيريز، بعد اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين. ركزت منصة نتنياهو على الأمن والإصلاح الاقتصادي والسلام من خلال القوة، داعية إلى نهج حذر في المفاوضات مع الفلسطينيين.
خلال فترة ولايته الأولى، واجه نتنياهو العديد من التحديات، بما في ذلك استمرار العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والصراع السياسي الداخلي، والصعوبات الاقتصادية. بادر إلى سياسات التحرير الاقتصادي، بهدف الحد من دور الحكومة في الاقتصاد وتشجيع نمو القطاع الخاص. كما عمل نتنياهو على تعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة، وخاصة في عهد الرئيس بيل كلينتون، على الرغم من توتر العلاقة في بعض الأحيان بسبب الخلافات حول عملية السلام.
على الرغم من جهوده، شابت فترة ولاية نتنياهو الأولى عدم الاستقرار السياسي. كانت حكومته الائتلافية هشة، وواجه معارضة من الأحزاب اليسارية والمتشددين داخل حزبه. في عام 1999، خسر نتنياهو الانتخابات العامة أمام إيهود باراك وابتعد مؤقتًا عن السياسة، واختار بدلاً من ذلك التركيز على القطاع الخاص.
العودة إلى السياسة ووزارة المالية
كان وقت نتنياهو بعيدًا عن السياسة قصير الأجل. في عام 2002، عاد إلى الخدمة العامة كوزير للخارجية في عهد رئيس الوزراء أرييل شارون. بعد عام واحد، عُيِّن وزيرًا للمالية، وهو المنصب الذي سمح له بتنفيذ إصلاحات اقتصادية كبيرة. تميزت سياسات نتنياهو خلال هذه الفترة بـ مبادئ السوق الحرة، بما في ذلك خصخصة الشركات المملوكة للدولة، وخفض الضرائب، وخفض الإنفاق العام. ساعدت هذه الإصلاحات في استقرار الاقتصاد الإسرائيلي، وخفض التضخم والبطالة، على الرغم من أنها أدت أيضًا إلى احتجاجات وانتقادات من أولئك الذين شعروا أن السياسات أضرت بشكل غير متناسب بالمواطنين ذوي الدخل المنخفض.
الفترة الثانية كرئيس للوزراء (2009-2021)
بعد عقد من المناورات السياسية، عاد نتنياهو كرئيس للوزراء في عام 2009، وقاد حزب الليكود إلى النصر. كانت فترة ولايته الثانية بمثابة فصل جديد في السياسة الإسرائيلية، حيث أصبح نتنياهو زعيمًا أكثر خبرة وواقعية. خلال هذه الفترة، ركز بشكل كبير على الأمن والدبلوماسية الدولية والنمو الاقتصادي.
كان أحد الجوانب الأكثر تحديدًا لقيادة نتنياهو هو تعامله مع التهديد النووي الإيراني. لقد حذر نتنياهو مرارا وتكرارا المجتمع الدولي من المخاطر التي تشكلها إيران المسلحة نوويا ودعا إلى فرض عقوبات والعمل العسكري إذا لزم الأمر. وقد سلط خطابه في عام 2015 أمام الكونجرس الأمريكي، حيث عارض الاتفاق النووي الإيراني الذي توسط فيه الرئيس باراك أوباما، الضوء على الخلاف بين نتنياهو والإدارة الأمريكية، على الرغم من أنه عزز صورته كحامي للأمن الإسرائيلي.
على الصعيد المحلي، واصل نتنياهو الضغط من أجل الإصلاحات الاقتصادية، وأشرف على فترة من النمو الكبير في صناعة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل، والتي أصبحت تُعرف باسم “دولة الشركات الناشئة”. ساعدت سياساته في جذب الاستثمار الأجنبي ووضع إسرائيل كقائد عالمي في التكنولوجيا والابتكار.
كما اتسمت فترة ولاية نتنياهو الثانية بالجدال والانقسام. وقد اتُهم بتعزيز السلطة وتقويض المؤسسات الديمقراطية، كما أثارت سياسات حكومته تجاه الفلسطينيين انتقادات دولية. وتحت قيادة نتنياهو، وسعت إسرائيل المستوطنات في الضفة الغربية، مما زاد من تعقيد عملية السلام. وعلى الرغم من هذه التحديات، حافظ نتنياهو على دعم قوي من الناخبين اليمينيين الذين نظروا إليه باعتباره زعيمًا ثابتًا في مواجهة التهديدات الوجودية.
المشاكل القانونية والسقوط من السلطة
في السنوات الأخيرة من ولايته الثانية، واجه نتنياهو سلسلة من التحديات القانونية. فقد وجهت إليه تهم الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة في عام 2019، ليصبح أول رئيس وزراء إسرائيلي يواجه اتهامات جنائية. ونشأت هذه الاتهامات من عدة قضايا تتعلق باتهامات بتلقي هدايا من رجال أعمال أثرياء ومحاولة التلاعب بالتغطية الإعلامية. ونفى نتنياهو جميع التهم، مدعيًا أنه كان ضحية لمطاردة ساحرات بدوافع سياسية.
على الرغم من مشاكله القانونية، تمكن نتنياهو من التمسك بالسلطة خلال عدة دورات انتخابية، لكن الجمود السياسي وعدم القدرة على تشكيل حكومة مستقرة أدى إلى سقوطه في النهاية. في يونيو 2021، بعد 12 عامًا متتالية في منصبه، أُطيح بنتنياهو من منصب رئيس الوزراء في أعقاب اتفاق ائتلافي بين أحزاب المعارضة بقيادة نفتالي بينيت ويائير لابيد.
نتنياهو يحتفل به العديد من الإسرائيليين لالتزامه الثابت بالأمن القومي ودوره في تحديث اقتصاد إسرائيل. شهدت فترة ولايته كرئيس للوزراء إقامة إسرائيل لعلاقات دبلوماسية مع العديد من الدول العربية، بما في ذلك اتفاقيات إبراهيم مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وهو إنجاز كبير في الدبلوماسية في الشرق الأوسط.
ومع ذلك، فإن نتنياهو هو أيضًا شخصية مثيرة للانقسام بشكل عميق. لقد أثار أسلوبه القيادي، الذي يُنظر إليه غالبًا على أنه استبدادي، ونهجه في التعامل مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني انتقادات من داخل إسرائيل وخارجها. لقد شوهت معاركه القانونية واتهاماته بالفساد سمعته، لكن تأثيره على السياسة الإسرائيلية لا يزال لا يمكن إنكاره.
حتى بعد سقوطه من السلطة، لا يزال نتنياهو شخصية مهيمنة في السياسة الإسرائيلية، مع قاعدة مخلصة من المؤيدين الذين يعتقدون أنه الزعيم الوحيد القادر على تأمين مستقبل إسرائيل. قصته بعيدة كل البعد عن الانتهاء، ويبقى أن نرى ما إذا كان سيعود سياسيا مرة أخرى.
في الختام، قصة حياة بنيامين نتنياهو هي شهادة على مرونته وفطنته السياسية وقدرته على التنقل في المشهد السياسي الإسرائيلي المعقد والمتقلب في كثير من الأحيان. من أيامه الأولى في الجيش إلى دوره كأطول رئيس وزراء إسرائيلي خدمة، سيستمر إرث نتنياهو في تشكيل مستقبل إسرائيل لسنوات قادمة.