نظرية تحسين النسل. في العقود القليلة الماضية ومع انطلاق الثورة التقدمية البشرية في كل شيء الصناعة التكنولوجية الطب والعلوم بكافة أشكالها خرجت مئات الالاف من الابحاث العلمية التي غيرت مفهومنا للعالم بل وغيرت مفهومنا ونظرتنا لاشياء كنا نعتقد أنه بديهية , انقلبت تصورات ومفاهيم البشر وتغيرت حياتهم ومعها معتقداتهم , لكن كما يقال العلم سيف ذو حدين إما أن تقطع به أو أن يتم قطعك , الكثير من تلك الابحاث كانت مزيفة بل وممولة من شركات ومنظمات لها نفوذ اقتصادي وسياسي وحتى ديني , يقرأها الانسان على أساس انها بحث علمي موثوق وتجده يحاضر به في الجامعات والمجالس بل وحتى في الكتب على سبيل المثال في القرن العشرين مولت شركات التبغ ابحاث ودراسات علمية تنفي أي اضرار للتدخين على صحة الانسان كان تأثير هذه الابحاث والدراسات المزيفة الى أن الناس كانو يدخنون بشراهة بل وصل التأثير الى الاطباء أنفسهم والمثقفين والنساء وأحيان حتى الاطفال .
في سنة 1998 تم سجن الباحث في ميدان علم النفس ستيفن بروننغ بتهمة تزوير مواد البحث وأدوية العلاج المخصصة للأطفال المتخلفين عقليا اثناء عمله في جامعة بيتسبيرغ . وفي عام 1974 قام الباحث وليام سمرلين من مركز ميموريال سلونكيتيرنغ لأبحاث السرطان في نيويورك بتزوير تجربة على رد فعل جهاز المناعة للأنسجة الأجنبية . قام ويليام برسم نقطة سوداء بواسطة قلم على فأر أبيض وزعم أنها نسيج زرع بنجاح من فأر أسود بعدما تم فضحه و اعتراف بذلك استقال من منصبه
قائمة حوادث تزوير العلم طويلة جدا لكن قررت في هذه الحلقة أن أركز على عملية نصب علمية كبيرة أثرت في العالم بأكمله بل وكانت من بين أهم الاسباب اندلاع الحرب العالمية التي قتل فيها ملايين الناس وهي نظرية أو علم تحسين النسل , هذا العلم الذي نشأ على ابحاث علمية مزيفة غير قناعات الناس وغسل أدمغتهم وحولهم الى وحوش , والمرعب أن الفكرة التي يقوم عليها هذا العلم مازلت موجودة الى اليوم , فما هي نظرية تحسين؟ النسل ومن أنشأها ؟
تحسين النسل، هي نظرية شبه علمية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، هي واحدة من جوانب العلم مأساوية في تاريخ البشرية. سعت هذه النظرية إلى تحسين الجودة الوراثية للبشر من خلال التكاثر الانتقائي، بهدف نهائي يتمثل في خلق بشر “متفوقين” او سوبر مان والقضاء على السمات “الدونية” الضعيفة . وبالتالي كانت الحجر الأساس لعدة عمليات تمييز وعنصرية بل ابادات جماعية
أصول تحسين النسل: رؤية فرانسيس جالتون
السير فرانسيس جالتون، وهو عالم بريطاني، صاغ مصطلح “تحسين النسل” عام 1883. كان جالتون، وهو ابن عم تشارلز داروين، متأثرًا بشدة بنظرية داروين في الانتقاء الطبيعي والتي خلاصتها البقاء للأصلح , كان جالتون يعتقد أن مبادئ الانتقاء الطبيعي يمكن تطبيقها على السكان البشريين لتشجيع انتشار السمات “المرغوبة” – مثل الذكاء والجمال والصحة البدنية والشخصية الأخلاقية – ومن جانب أخر قمع وسحق الأفراد ذوي السمات الضعيفة ، مثل من لهم إعاقات جسدية أو امراض عقلية .
كانت جالتون مفتون بعلم الوراثة والجينات الذي كان غالبه يطبق على النباتات وفي المجال الزراعي . كان يؤمن بأن تحسين النسل من خلال إعادة هندسة الجينات هي الوسيلة لتصميم مجتمع كامل ، كان جالتون من المؤمنين بأن الذكاء البشري وسمات الشخصية هي موروثة مع المورثات الجينية إلى حد كبير . وهذه الفكرة لوحدها صادمة ومادية لابعد الحدود ، كان التهجين الانتقائي بين البشر، تمام مثل التهجين الذين نستخدمه في الزراعة وحتى في الحيوانات . هو الخطوة المنطقية التالية بالنسبة له لتحسين الجنس البشري فما نجح على البطيخ والفلفل والماعز يمكن حسب نظرية التطور أن ينجح على البشر .
في البداية قوبلت أفكار غالتون بنوع من الريبة والشك ، لكن رغم ذلك فقد كان لها مؤيدين وان كان عددهم قليل غير أنها بعد فترة قصيرة أصبحت حجر الاساس الذي بنيت عليه حركة تحسين النسل العالمية التي انتشرت بشكل مجنون في أوائل القرن العشرين وتحديدا في اوروبا. كان جوهر فكرة تحسين النسل هو أنه بدلاً من معالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية -كالفقر والجريمة والمرض العقلي والتخلف والجهل – يمكن القضاء عليها من خلال التحكم في اصل المشكل أي في من ينجب الأطفال .
نظرية تحسين النسل والداروينية الاجتماعية
بحلول بدايات القرن العشرين، اكتسبت حركة تحسين النسل شعبية كبيرة بين المثقفين والعلماء والسياسيين الاوروبيين وانتقلت العدوى أمريكا الشمالية . كانت الحركة مدفوعة بما يسمى الداروينية الاجتماعية تفرع لنظرية التطور ، هذه النظرية تستند على تطبيق مفهوم “البقاء للأقوى” أو “البقاء للأصلح” ، وتطبيقه على المجتمعات البشرية ، باعتبار أن البشر كائنات حية مثلها مثل غيرها والطبيعة لا تفرق بين الكنغر وشكسبير . فإذا كانت الطبيعة تقوم بدفع الحيوان الاقوى ودعم جيناته ونبذ الحيوان الضعيف وابادة نسله فالدارونية الاجتماعية تطبق نفس المبدأ حيث تفترض أن المجتمعات البشرية يجب أن تتطور من خلال الصراع بين الأفراد أو الجماعات ، حيث يتمكن “الأقوى” أو “الأفضل” من البقاء والسيطرة ، بينما يجب منع الضعفاء من التكاثر وبالتالي قطع نسلهم نهائيا .
في الولايات المتحدة، تبنى العديد من الشخصيات المؤثرة، بما في ذلك الساسة والعلماء والصناعيون، علم تحسين النسل. روج علماء تحسين النسل البارزون مثل تشارلز دافنبورت وهاري لافلين لفكرة مفادها أنه يمكن تحسين السكان الأمريكيين من خلال منع الأشخاص الذين يُعتبرون “غير لائقين” من التكاثر وحين يقصدون بغير لائقين فهم بالدرجة الاولى يقصدون من هم ليسوا بيض ثم يأتي بعد ذلك البيض المرضى ومعاقين والمتخلفين عقليا .
تحسن النسل والهندسة الجينية
ربط علماء تحسين النسل الفقر والجريمة والعرق بالجينات، بحجة أن الأشخاص من خلفيات عرقية أو طبقات اجتماعية معينة لديهم استعداد بيولوجي لهذه التصرفات الغير أخلاقية . على لرغم من أن نظرية التطور والعلم بشكل عام لا يعترف بشيء اسمه أخلاق ولا توجد هذه الكلمة في قاموسه أصلا . ونتيجة لذلك، وفرت هذه النظرية العلمية أرضية خصبة للأفكار العنصرية والطبقية واكتسبت دعمًا من منظمات وشركات كبيرة ، مثل الجمعية الأمريكية لتحسين النسل، وأنشأت الجامعات الرائدة أقسامًا خاصة لأبحاث تحسين النسل .
في أمريكا تم إقرار قوانين سمحت بالتعقيم الاجباري لكل من اعتبروهم غير لائقين للتكاثر ووجودهم ووجود جيناتهم في الوجود ما هو الا عبئ على الجنس البشري . بدءاً من عام 1907، نفذت غالبية الولايات الامريكية قوانين التعقيم لعدم الإنجاب ، وكانت بدايتهم من الافراد الموجودين تحت سيطرتهم مثل المستشفيات والسجون .
قضية قضية Buck v. Bell
كانت القضية الأكثر شهرة هي قضية Buck v. Bell باك في بيل عام 1927. في هذه القضية وأمام المحكمة العليا، حكمت المحكمة لصالح تعقيمها إجباريا أي انها لن تنجب بعد ذلك أبدا ، قالت المحكمة أن الحكومة لها الحق في تعقيم أي شخص لا يتوافق مع معايير للإنسان المتكامل . بهذا القرار هذا القاضي أخذ منصب الاله وهو من أصبح يقرر مصير انسان اخر بل ويقرر مصير الاجيال التي ستأتي بعده من خلال نظرية علمية قد يتم اثبتات أنها مكذوبة في المستقبل وهذ ما حدث تخيل تكون عندك القدرة على أن تقرر من يجب أن يكون عنده اطفال ومن يجب لا يكون عنده , مجرد التفكير فيها يصيبني بالحمى والدوار
كتب القاضي أوليفر ويندل هولمز في قراره الشهير، الجملة التالية “ ثلاثة أجيال من الحمقى تكفي”.كان هذا الحكم بمثالة نذير شئم , فقد أعطى شرعية تعقيم الايقاف الانجاب عشرات الآلاف من الناس على مدى سنين . كان العديد من الذين تم تعقيمهم من الفقراء ، أو المصابين بأمراض عقلية ، أو المعاقين جسديا او ذهنيا ، أو أعضاء الجماعات العنصرية والإثنيات المهمشة . لم يكن البقاء في هذا النظرية سوى للرجل الابيض الكامل او الذي اعتقدوا انه كامل ولو كان كاملا لما مات ,
في عام 1924 قامت الولايات المتحدة لامريكية بتشديد اجرائات الهجرة لمنع المهاجرين من جنوب وشرق أوروبا بجلب جيناتهم إلى السكان الأمريكيين ذوي النقاء العرقي والتفوق الجيني .
نظرية تحسين النسل وألمانيا النازية
حين تقرأ تاريخ هذه النظرية الغريبة تجد بأن جل متبنيها اما هم من المجانين او العنصريين او المجرمين , فقد وجدت النظرية أرضية خصبة في ألمانيا النازية . حيث تبنى أدولف هتلر والنظام النازي المبادئ الكاملة لتحسين النسل بالاضافة الى الكثير من اراء فريدريك نيتشه حول فكرة السوبرمان , أخذ هتلر كل هذه الافكار إلى أقصى حد بل وطبقها بشكل أكثر رعبا . كان هتلر والحزب النازي عموما يؤمنون بتفوق العرق “الآري” , ومن خلال تبنيهم لنظرية تحسين النسل سعوا إلى تنقية الجينات الألمانية من خلال القضاء على أولئك الذين اعتبروهم “أدنى عرقيًا” يهود عرب صينيين افارقة وكل عرق اخر .
هتلر تأثر بشكل عميق بنظرية التطور لتشارلز داروين التي تتحدث عن البقاء للاصلح في عالم الطبيعة , وايضا بأفكار نيتشه في كتابه هكذا تكلم زارادشت والتي من المرجح بنسبة كبيرة أنه اساء فهمها أو غير مضمون كلام نيتشه ليوافق أفكاره العنصرية . وكتب هتلر عن الحاجة إلى النقاء العرقي الجرماني في كتابه ، كفاحي .
“العرق الآري” هو مصطلح نشأ في القرن التاسع عشر، يستند إلى مفهوم لغوي وتاريخي وليس مفهومًا بيولوجيًا أو عنصريًا. في الأصل، كانت كلمة “آري” تستخدم لوصف الأشخاص الذين يتحدثون اللغات الهندو-إيرانية، خصوصا في الهند القديمة وبلاد فارس . المصطلح مشتق من الكلمة السنسكريتية “ārya”، والتي تعني “نبيل” أو “مشرف”.
هنا جاء دور تزييف العلم , حيث أساء العلماء الأوروبيون استخدام المصطلح عن عمد وطوروا مفهوم “العرق الآري” وحولوه من مفهوم لغوي الى مفهوم بيولوجي عرقي ليس له أساس في علم الأحياء الحديث أو علم الوراثة . فانتقل المصلح من مجرد مجتمعات بشرية يتحدثون اللغات الهندو-إيرانية الى مفهوم “العرق الآري” الذي يدل على أشخاص ذوي بشرة بيضاء فاتحة وشعر أشقر وعيون زرقاء ، وحتى ان كنت تحمل كل هذه الصفات فلا يتم ادراجك ضمن العرق الاري الا اذا كنت من سكان ألمانيا وشمال أوروبا . يعني عنصرية مغمسة عنصرية .
استغل أدولف هتلر والإيديولوجية النازية في الثلاثينيات وأربعينيات مفهوم “العرق الآري الخالص ” كمبرر للتعقيم الجماعي وإبادة الملايين من الناس بينهم مجموعات عرقية ودينية كاليهود والغجر والسلاف وكل من اعتبروهم أدنى مرتبة منهم . استخدم النازيون هذا المصطلح للترويج لإيمانهم بالتفوق العرقي للألمان والأوروبيين الشماليين . كانت نظرية تحسين النسل الاري هي القلب النابض للسياسات العنصرية النازية بل وكانت هي أحد أهم اسباب الهولوكوست والتي اطلق عليها اسم عمليات “النقاء العرقي”. كانت هذه الفكرة هي المحرك الذي صنع لنا أكبر مجزرة بشرية عرفها الانسان وهي الحرب العالمية
برنامج T4 وتنقية العرق الاري
أطلق النازيون على خطة الابادة العرقية اسم “ برنامج T4”، حيث تم تعقيم كل من له إعاقات عقلية وجسدية بالقوة أو قتلهم , استندت هذه البرامج إلى فكرة أن هؤلاء الأفراد كانوا عبئًا على المجتمع وأن حياتهم “لا تستحق العيش”. بسبب نظرية علمية مزيفة , قُتل الملايين من الناس في معسكرات الاعتقال كجزء من رؤية النازيين الملتوية للحياة وللنقاء العرقي وتحسين النسل . وكانت محفزا لهتلر والحزب النازي في حربه على كل الجبهات التي فتحها خلال الحرب العالمية . لم يتم اكتشاف الفضائع التي تم ارتكابها باسم العلم الى بعد انتهاء الحبر وبداية محاكمات محاكمات نورمبرج، التي سلطت الضوء على مجرمي الحرب النازيين ، وكشفت أهوال التعقيم القسري والتجارب الطبية والإبادة الجماعية التي نفذت باسم نظرية تحسين النسل .
في فترة ما بعد الحرب، فقدت هذه النظرية بريقها ومصداقيتها وتم رفضها علميا على نطاق واسع , وتم رفض استخدام تزييف العلم لتبرير أفعال وأفكار عنصرية . فإن إرثها لا يزال قائماً بطرق خفية . تستمر مفاهيم مثل الحتمية الوراثية وفكرة تحسين الجنس البشري من خلال علم الوراثة في الظهور على السطح في المناقشات الحديثة حول الهندسة الوراثية وتقنيات الإنجاب والطب الحيوي. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال إرث التعقيم القسري قائما، حيث لم يحصل العديد من المتضررين على العدالة أو التعويضات عن انتهاكات حقوقهم الإنسانية.
مع تطور علم الوراثة، تبين أن السمات البشرية كانت أكثر تعقيدًا مما كان يعتقده علماء تحسين النسل . وينطبق عليهم مثل أنهم كانو فقط يرون الجزء الظاهري لجبل الثلج وأعتقد أولائك العلماء وتابعيهم الى اليوم أن العلم هو الاله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهذه النظرية هي فقط كمثال بسيط وواحد يهدم هذه الفكرة المتخلفة مثال على عدم الامانة والخداع والتزييف في العلم وكيف يمكن لهذا الخداع والتزييف أن يغير أفكار الناس وعقائدهم لا بل ويشعل حروب ويكون سبب في محارق وإبادات جماعية فالعلم متغير ومستمر في التطور وما هو اليوم حقيقة علمية قد تكون بعد مئة سنة خرافة , وتضحك علينا تلكا لاقوام المستقبلية مثلما نحن الان نضحك على من سبقونا ونحكي قصصهم من باب المتعة والاستفادة في حين أنهم في ذلك الوقت كانو يرون أنفسهم في ذروة التفكير العلمي .
مقالة أخرى : 70 مليون قتيل: القصص غير المروية لضحايا الحرب العالمية الثانية