لويس أغناسيوس دا سيلفا : من ماسح أحدية لرئيس دولة البرازيل
تخيل لو جاء أحد مهني مسح الأحذية . وبينما هو يمسح ويلمع حذائك قال لك . سوف أكون رئيس دولة يوما ما ، غالبية الناس ستكون ردة فعلهم عبارة عن تهكم وسخرية ، وقد تسخر منه وتقول له ” أكمل أكمل كفاك خزعبلات ” ، وقد تعتقد ان هذا الشخص مجنون , او حدث له تماس ف اعصاب دماغه ، الصدمة ستأتي كالصاعقة بعد سنين حين تعلم ان ذلك الرجل الذي قال لك تلك الكلمات قد اصبح فعلا رئيس دولة ، هذه هي قصة لويس أغناسيوس دا سيلفا رئيس دولة البرازيل .
طفولة لويس أغناسيوس
ولد لويس أغناسيوس دا سيلفا في الـ 27 من أكتوبر 1945 بمدينة جارانهونس البرازيلية الفقيرة . نشأ دا سيلف في اسرة فقيرة وغير متعلمة تعمل في الفلاحة مكونة من 8 أطفال . والمعيل الوحيد لهذه الأسرة كبيرة العدد هي الأم بعد أن تركهم والدهم وقرر أن يبدأ حياة جديدة مع امرأة اخرى بعيدا عنهم . كان دا سيلفا محظوظا بشخصية امه القوية التي تمتعت بعزم كبير وقدرة صبر وتحمل غير طبيعية . الشيء الذي أسهم في تكوين شخصيته القيادية والمؤثرة فيما بعد .
لويس أغناسيوس كان ايضا محظوظا بعض الشيء عن اخوانه باستمراره في الدراسة لبضع سنوات . غير أن هذا الحظ توقف بتوقفه عن الدراسة تمام في الصف الخامس الابتدائي مضطرا . بسبب المعاناة والفقر وعدم قدرة والدته إعالة العائلة. لذلك خرج لشوارع البرازيل الفقيرة و القاسية . المليئة بالعنف والإجرام للبحث عن عمل .
عمل لويس أغناسيوس وهو في العاشرة من عمره بائعا متجولا, في محطة للبنزين, و ماسحا للأحذية . ثم في سن الـ 19، خسر دا سيلفا الأصبع الصغير في يده اليسرى أثناء عمله في مصنع للصلب قرب ساو باولو. بعد هذه الحادثة المؤلمة لم يهتم صاحب العمل بعلاجه و تم طرده مباشرة من العمل . هذه الحادثة وهذا الظلم المؤلم اشعل في نفس لويس أغناسيوس نار الثورة والعدالة الاجتماعية . فبدأ ينخرط في نقابات عمالية لينادي بحقوق العمال المضطهدين . وتحسين مستواهم المعيشي وتحررهم من وحوش الرأسمالية وأصحاب المصانع المتعطشين للمال فقط لا غير.
المعاناة التي عانها لويس أغناسيوس والحضور القوي لوالدته العصامية . كانا من أهم العوامل التي بلورة شخصيته القوية وشكلتها . فظهر هذا التأثير في قدرته العجيبة على تحرك مئات الاف من الناس والتأثير فيهم لاعتناق أفكاره وتوجهاته الثورية والسياسية . رغم أنه لم يتعلم لا القراءة أو الكتابة حتى حتى سن متقدمة من عمره.
بداية العمل السياسي لـ لويس أغناسيوس
بعد سنوات قليلة، أصبح لويس أغناسيوس دا سيلفا رئيسا للنقابة . ثم أحد أبرز المناضلين والمدافعين عن حقوق العمال في البلاد. لم يطل الأمر حتى تم انتخابه عام 1975 زعيم نقابة عمال الحديد التي كانت تضم حينها 100 ألف عضو . ثم شيئا فشيئا حتى وجد نفسه سنة 1978 يتقلد زعامة الحزب اليساري الأكبر والاكثر شعبية في البلاد . لم يدم الأمر طويلا حتى أحدث دا سيلف تغييرا جذريا في العمل النقابي . حيث تمكن من تحويل نقابته التي كانت في السابق تدور في فلك الحكومات . إلى حركة نقابية قوية مستقلة ولها كلمتها المؤثرة في الشارع و في القرارات السياسية.
البرازيل في ذلك الوقت كانت فعلا دولة فاشلة غارقة في الديون والجهل والعنف : لا اقتصاد, لا سياحة, لا تعليم , والفساد ينهش في مؤسسات الدولة بدون استثناء, لدرجة ان الدين العام تضاعف لـ 900 ٪ والعملة الوطنية أصبحت في الخضيض.
الحس الوطني الصادق الذي تمتع به دا سيلفا . والرغبة القوية في التغيير الجذري بعيدا عن المصالح الشخصية . ومحاربة جشع رجال الأعمال, ومطالبته بحقوق العمال والفقراء . أكسبه ثقة فئة كبيرة وواسعة من المناصرين. كل هذا مكنه سنة 1980 من النجاح في جمع الكثير من النقابيين في البلاد ونخب فكرية وازنة تحت إطار سياسي واح د. ليؤسس أول حزب اشتراكي يساري في تاريخ البرازيل تحت اسم “حزب العمال”.
تجربة الاعتقال والسجن
وبعد خوض الكثير من الإضرابات و ودخوله وخروجه من السجن مرات عديدة بسبب معاداته للنظام العسكري الذي كان يحكم البلاد آنذاك . تمكن بعد انتهاء الحكم العسكري عام 1985 من الترشح لرئاسة البلاد . لكنه فشل في أول تجربة له . ثم ترشح للمرة الثانية ولم يفز أيضا, وللمرة الثالثة ولم يفز فيها هي الاخرى . حتى ترشح للمرة الرابعة عام 2003 و تمكن من الفوز بكرسي الرئاسة بنسبة 61.2% أي 51 مليون صوت وهي نسبة ساحقة وغير مسبوقة، وبذلك صار أول رئيس يساري اشتراكي يترأس الجمهورية منذ قيامها عام 1889.
بعد تسلم دا سيلفا السلطة . كان البلد في حكم المنهارة اقتصاديا و الميتة سريريا : وجد ان البرازيل مدانة بقرابة الـ 175 مليار دولار من الديون الخارجية . لكنه رغم ذلك و للقيام بالإصلاحات التي يريدها . كان مضطرا لاقتراض 36 مليار دولار اخرى من صندوق النقد الدولي . أن أن الدين الخارجي اصبح 211 مليار دولار وهو رقم يرعب حتى الدول القوية اقتصاديا مثل أمريكا والصين . ولا يمكن تسديده إلا بسنوات طويلة من تكسير جيوب المواطنين ورفع الأسعار في كل مناحي الحياة بشكل مهول.
خطة هذا الرجل في إرجاع هيبة الدولة وقيامها من جديد كانت تتجلى في مراحل عديدة : منها أولا تطمينه لرجال الأعمال الخائفين على استثماراتهم ومصالحهم المالية . وأنه لن يصيبهم اي ضرر من الاجراءات التي سيقوم بها بل بالعكس . وفي نفس الوقت التقرب من جميع طبقات المجتمع وخاصتا المتوسطة والفقيرة منها . وشرحه الخطة او الاجراءات التي سيبدأ فيها ليكونوا على دراية بالأحداث التي ستأتي في المستقبل.
ثانيا بدأ داسيلفا في خطة تقشف في كافة مصروفات الدولة . يعني بإختصار شديد منع جميع الأنشطة والمشاريع التي تستهلك خزينة الدولة . مثل العلاوات والمكافآت والمصاريف الغير مهمة والثانوية, حتى المصاريف والمشاريع المهمة حكم عليها بالتقشف لأبعد حد . كي لا يترك أي مجال لتبذير اي دولار من خزينة الدولة.
ثالثا بدأ في خطة لسحب الدعم من كافة السلع . واستبدالها بتعويض مالي مباشر لكافة الفقراء في البلاد : وهي فعلا خطة ذكية جدا لضمان وصول أموال الدعم مباشرة للفقراء . وضمان عدم استفادة الأغنياء منها, وبالتالي ضمان وصول سيولة كبيرة الى خزينة الدولة.
نجح هذا البرنامج بوصول عدد المستفيدين منه لـ 61 مليون شخص, بمتوسط دعم للأسرة الواحدة بـ 740 $ في الشهر الواحد . وهو طبعا مبلغ مهم وكبير جدا مكن الأسر الفقيرة البرازيلية من العيش بكرامة . و ضمان الملبس والمأكل والتعليم لأطفالهم.
رابعا رفع داسيلفا الضرائب على الجميع . رجال الأعمال . أصحاب الثروات الكبيرة . وعلى رفعها ايضا الطبقات الميسورة وفوق المتوسطة باستثناء الأسر الفقيرة المستفيدين من الدعم. في المقابل قام بكسب رضى رجال الأعمال بتسهيلات كبيرة سواء في القروض . الفوائد و المعاملات البنكية, لتشجيعهم على الاستثمار أكثر في البلاد.
هذه الخطة التي سارت عليها البرازيل لثماني سنوات فقط . نجحت في انتشال نحو 44 مليون برازيلي من الفقر . وكبح التضخم مع زيادة النمو وتحقيق فائض قياسي . إلى الحد الذي جعل الحكومة تسدد ديونها الأجنبية وتصفي قروض صندوق النقد الدولي بالكامل عام 2005 . لا وبل الأعجب أن صندوق النقد الدولي سنة 2009 . اصبح هو نفسه مديونا للبرازيل بـ 10 مليارات دولار. كل هذا بعد 6 سنوات فقط من حكم داسيلفا للبلاد.
البرازيل دولة غريبة
تتمتع البرازيل بمساحات زراعية وثروات طبيعية كبيرة جدا . هذا الأمر كان مثل الكنز الذي سيغير كل شيء. المشكل ان الدولة لم تكن لديها القدرة المالية والبشرية الكافية لاستخراج هذه الثروات وبيعها, لذلك قام داسيلفا بحيلة ذكية جدا وهي إزالة كافة العوائق الإدارية للأفراد والشركات الصغيرة والكبيرة, التي تمتهن استخراج المواد الخام : مثل البن والقمح والصويا والقطن والمعادن والنفط والغاز وغيرها من المواد الخام. وقدم ايضا تحفيزات وتسهيلات مالية كبيرة وغير مسبوقة وإعفاءات ضريبية لسنوات, لكن بشرط أن يبيعوا انتاجاتهم للدولة فقط لا غير, وهي التي ستقوم بإعادة بيعها وتصديرها للخارج.
بدأت خزينة الدولة بفضل سياسات داسيلفا بدأت تصيبها التخمة من كثرة الأموال التي تأتيها من تصدير المواد الخام فقط. ثم حولت كل هذه الأموال الى دعم الصناعات التكنولوجية القوية مثل صناعة السيارات والطائرات. لتتحول البرازيل بعد ذلك لأكبر دولة اقتصادية في أميركا الجنوبية وسابع اقوى اقتصاد في العالم متقدمة بذلك على بريطانيا وكندا. هذا بدون الحديث عن النجاح الكبير في قطاعي السياحة و الرياضة الذي يشهد له كل العالم بالتفوق والازدهار.
كل هذه النجاحات المبهرة حولت البرازيل من بلد تابع الى قوة عالمية وكيان مؤثر, لديها كلمة مسموعة في الكثير من القرارات الدولية العالمية.
انتهت ولاية داسيلفا الثانية في عام 2011 , ليترك السلطة طواعية وعارض ترشحه لولاية رئاسية ثالثة لأن الدستور لا يسمح بذلك. لكن الشعب البرازيلي خرج بالملايين مطالبين إياه بتعديل الدستور والترشح مجددا, ولكنه رأى إن عليه أن يكون قدوة للأجيال القادمة والا يتمسك بالسلطة، وأن يحترم الدستور و الفترة الرئاسية المحددة فيه.
وقال في خطابه الاخير مقولة اعتبرت درسا مهما لجميع ديمقراطيات العالم : ” ناضلت أكثر من عشرين سنة ودخلت السجن لمنع الرؤساء من أن يبقوا في الحكم أطول من المدة القانونية المسموح لهم بها، فكيف أسمح لنفسى أن أفعل ذلك الآن؟ ” بسبب هذا الرفض خرج الشعب البرازيلى فى تظاهرات حاشدة ليودع دا سيلفا بالدموع، معبرين له عن مدى حبهم وامتنانهم له و لما فعله من أجلهم ومن أجل البرازيل.
لكن ولسخرية القدر ـ أو سمها كما شئت . كانت الديمقراطية واستقلال القضاء الذي أسسه لويس أغناسيوس . كان سببا في محاكمته بتهم فساد وتبديد المال العام, رغم أنه نفى كل الاتهامات الموجهة له واعتبرها مكيدة مدبرة من معارضيه واعدائه الذين لا يريدون رؤيته مجددا في الساحة السياسية . وأنه إذا ما استمر في العمل السياسي فلن يكون لهم أي فرصة لنجاح امامه وخاصتا ان كل الشعب معه .ويعلمون أيضا كما صرح هو في مقابلته الصحفية أنهم يظنون أنه لا توجد طريقة لإخراجه من قلوب البرازيليين وحبهم إلا بطريقة التخوين والفساد.
لكن رغم كل هذا حكم عليه سنة 2017 بـ 12 سنة في السجن لم يقضى منها سوى عام ونصف فقط ليخرج في عام 2019. ورغم كل هذا لم يتغير شيئ في شعبيته وحب البرازيليين له, حتى انه تحول الى ايقونة وبطل حقيقي ولقب بصانع البرازيل الحديثة و الرئيس البكاء لشدة بكائه وتأثره في كل مرة يكون بين الحشود المحبة له.
وبهذا اثبت دا سيلفا للعالم أجمع ان القوة الحقيقية ليست بقوة المال والنفوذ فقط بل هي القوة التي تستمد من الشعب, وأثبت لجميع رؤساء العالم والسياسين أنه إذا دخل أي سياسي قلب ووجدان الشعب, فلن يخرجه من ذلك المكان سوى الشعب نفسه …
مصدر