قصة نجاح فيسبوك هي واحدة من أكثر القصص إثارة في تاريخ التكنولوجيا والأعمال. ما بدأ كمشروع في غرفة نوم في جامعة هارفارد عام 2004 تحول إلى واحدة من أكثر الشركات تأثيرًا في العالم، مما أعاد تشكيل طريقة تواصل الناس وتبادل المعلومات وحتى إدراكهم للواقع. فيسبوك، المعروف الآن باسم “ميتا بلاتفورمز”، أصبح ظاهرة عالمية، حيث يضم مليارات المستخدمين وتبلغ قيمته السوقية ما يضعه بين أكثر الشركات قيمة على وجه الأرض. لكن رحلته نحو النجاح لم تكن خطية أبدًا. إنها قصة مليئة بالابتكار والطموح والجدل والقدرة على التكيف، مع لحظات محورية حولت موقعًا بسيطًا للتواصل الاجتماعي إلى إمبراطورية تكنولوجية.
البدايات المتواضعة: هارفارد وولادة “TheFacebook”

تعود أصول فيسبوك إلى فبراير 2004، عندما أطلق مارك زوكربيرغ، الطالب البالغ من العمر 19 عامًا في جامعة هارفارد، موقع “TheFacebook” من غرفة نومه في السكن الجامعي. كان زوكربيرغ، الذي يدرس علوم الكمبيوتر ويتمتع بموهبة في البرمجة، قد اكتسب سمعة في الحرم الجامعي بعد إنشائه لمشاريع سابقة مثل “Facemash”، وهو موقع سمح للمستخدمين بمقارنة جاذبية طلاب هارفارد. بينما كان “Facemash” مثيرًا للجدل وتم إغلاقه بسرعة من قبل الجامعة، إلا أنه أظهر قدرة زوكربيرغ على إنشاء منصات إلكترونية تنتشر بسرعة.
في البداية، تم تصميم “TheFacebook” كشبكة تواصل اجتماعية حصرية لطلاب هارفارد، تسمح لهم بإنشاء ملفات تعريف والاتصال بزملائهم في الدراسة ومشاركة المعلومات. لم تكن الفكرة جديدة تمامًا؛ فقد كانت هناك منصات مثل “Friendster” و”MySpace” موجودة بالفعل، لكن رؤية زوكربيرغ كانت تتمحور حول إنشاء تجربة أكثر حصرية وسلسة. وسرعان ما حظي الموقع بشعبية كبيرة، وفي غضون أسابيع، انضم آلاف الطلاب إلى الموقع. أدى نجاح “TheFacebook” في هارفارد إلى قيام زوكربيرغ والمؤسسين المشاركين – إدواردو سافرين، أندرو ماكولوم، داستن موسكوفيتز، وكريس هيوز – بتوسيع المنصة لتشمل جامعات أخرى في رابطة اللبلاب (Ivy League) وفي النهاية لتشمل الكليات في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
“نيوز فيد” والمنصة: ابتكارات غيرت قواعد اللعبة

كان أحد أهم ابتكارات فيسبوك هو إطلاق “نيوز فيد” (News Feed) في عام 2006. هذه الميزة، التي جمعت تحديثات من أصدقاء المستخدم وعرضتها في شريط واحد قابل للتمرير، أحدثت ثورة في طريقة استهلاك المحتوى على المنصة. بينما واجه “نيوز فيد” مقاومة في البداية من المستخدمين الذين وجدوه تدخليًا، إلا أنه سرعان ما أصبح عنصرًا أساسيًا في تجربة فيسبوك. لم يقتصر الأمر على إبقاء المستخدمين متفاعلين فحسب، بل وفر أيضًا لفيسبوك بيانات قيمة حول تفضيلات المستخدمين وسلوكياتهم، والتي تم استخدامها لاحقًا في الإعلانات المستهدفة.
جاءت لحظة أخرى محورية في عام 2007 مع إطلاق “منصة فيسبوك” (Facebook Platform). سمح ذلك لمطوري الطرف الثالث بإنشاء تطبيقات وألعاب يمكن دمجها في فيسبوك، مما حول المنصة إلى مركز للترفيه الاجتماعي. أصبحت ألعاب مثل “FarmVille” من “Zynga” ظواهر فيروسية، مما زاد من تفاعل المستخدمين وجذب ملايين المستخدمين الجدد. كما مهدت منصة فيسبوك الطريق لبدء عمل الشركة في مجال الإعلانات، حيث بدأت العلامات التجارية ترى القيمة في الوصول إلى جمهور فيسبوك المتزايد.
صعود الإعلانات وطريق فيسبوك نحو الربحية

كان نموذج عمل فيسبوك دائمًا يتمحور حول الإعلانات، لكن الشركة استغرقت عدة سنوات لصقل نهجها وتحقيق الربحية. في الأيام الأولى، اعتمد فيسبوك على الإعلانات الإعلانية والمحتوى المدعوم، لكن هذه الطرق لم تكن فعالة بشكل خاص. جاءت النقلة النوعية مع إدخال الإعلانات المستهدفة، التي سمحت للمعلنين بالوصول إلى فئات ديموغرافية محددة بناءً على بيانات المستخدمين. أصبح هذا الابتكار ممكنًا بفضل الكميات الهائلة من المعلومات التي جمعها فيسبوك عن مستخدميه، بما في ذلك اهتماماتهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
بحلول عام 2009، أصبح فيسبوك قوة مهيمنة في مجال الإعلانات عبر الإنترنت، حيث اجتذب علامات تجارية كبرى وشركات صغيرة على حد سواء. أدت قدرة الشركة على تقديم إعلانات مستهدفة على نطاق واسع إلى جعلها منصة جذابة للمعلنين، ونمت إيراداتها بشكل كبير. في عام 2012، أصبحت فيسبوك شركة عامة في واحدة من أكثر الطروحات الأولية للاكتتاب العام (IPO) التي لاقت ترقبًا في التاريخ. بلغت قيمة الاكتتاب 104 مليار دولار، مما جعلها واحدة من أكبر الاكتتابات في قطاع التكنولوجيا. بينما عانت الأسهم في البداية بسبب مخاوف تتعلق بتحقيق الإيرادات من الهواتف المحمولة، إلا أن فيسبوك سرعان ما تكيف وأثبت قدرته على تحقيق إيرادات كبيرة من الإعلانات عبر الأجهزة المحمولة.
عمليات الاستحواذ والتنويع: إنستغرام، واتساب، وأوكولوس

كانت عمليات الاستحواذ الاستراتيجية عاملاً رئيسيًا في نجاح فيسبوك، حيث سمحت للشركة بتوسيع نطاق وصولها وتنويع عروضها. في عام 2012، استحوذت فيسبوك على إنستغرام، تطبيق مشاركة الصور الذي كان يتمتع بقاعدة مستخدمين سريعة النمو، مقابل مليار دولار. في ذلك الوقت، بدا سعر الشراء باهظًا، لكن إنستغرام أصبح منذ ذلك الحين واحدة من أكثر الأصول قيمة في محفظة فيسبوك، حيث تجاوز عدد مستخدميه المليار وأصبح لديه أعمال إعلانية مزدهرة.
في 2014، قامت فيسبوك بخطوة جريئة أخرى من خلال الاستحواذ على واتساب، تطبيق المراسلة الشهير في الأسواق الدولية، مقابل 19 مليار دولار. لم يمنح هذا الاستحواذ فيسبوك موطئ قدم في مجال المراسلة فحسب، بل ساعد الشركة أيضًا على الوصول إلى الأسواق الناشئة حيث كان واتساب مستخدمًا على نطاق واسع. في نفس العام، استحوذت فيسبوك على “أوكولوس في آر” (Oculus VR)، وهي شركة تعمل في مجال الواقع الافتراضي، مما أشار إلى اهتمامها بمستقبل التكنولوجيا الغامرة.
إعادة التسمية من فيسبوك إلى “ميتا” والرؤية للمستقبل

في أكتوبر 2021، أعلنت فيسبوك عن إعادة تسمية كبيرة، حيث غيرت اسمها إلى “ميتا بلاتفورمز”. يعكس هذا التغيير رؤية زوكربيرغ لبناء “ميتافيرس”، وهي مساحة افتراضية ستكون الجيل القادم من الإنترنت. بينما قوبلت إعادة التسمية بردود فعل متباينة، إلا أنها أكدت التزام فيسبوك بالابتكار واستعدادها لتحمل المخاطر في سعيها لتحقيق نمو طويل الأجل.
يمثل “الميتافيرس” رؤية جريئة وطموحة للمستقبل، لكنه يأتي أيضًا مع تحديات كبيرة. يتطلب بناء منصة واقع افتراضي كاملة الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية والمحتوى. كما يتطلب معالجة مخاوف تتعلق بالخصوصية والأمان وإمكانية الوصول. سواء كانت فيسبوك – أو ميتا – قادرة على تحقيق هذه الرؤية بنجاح يبقى أمرًا غير مؤكد، لكن سجل الشركة يشير إلى أنها ستستمر في لعب دور رئيسي في تشكيل مستقبل التكنولوجيا.
اقرا ايضا فيلم زابرودر: مقطع من 30 ثانية غير فهم العالم لاغتيال جون كينيدي