الحياة المبكرة لـ فلاديمير بوتن والخلفية
ولد فلاديمير فلاديميروفيتش بوتن في 7 أكتوبر 1952 في لينينغراد، المدينة المعروفة الآن باسم سانت بطرسبرغ. كان أصغر ثلاثة أطفال، على الرغم من وفاة شقيقيه الأكبرين أثناء الحرب العالمية الثانية. كان والداه، ماريا إيفانوفنا وفلاديمير سبيريدونوفيتش بوتن، من الأشخاص المجتهدين ولكن المتواضعين؛ خدم والده في البحرية السوفيتية وعمل لاحقًا في مصنع، بينما كانت والدته ربة منزل ساهمت في بقاء الأسرة خلال سنوات ما بعد الحرب.
نشأ فلاديمير بوتن الصغير في شقة مشتركة مع العديد من العائلات، وواجه مصاعب الحياة في الاتحاد السوفيتي. ومع ذلك، كان طفلاً حيويًا وحازمًا، وغالبًا ما كان يخوض معارك ويظهر حسًا مبكرًا بالانضباط. أصبح بوتن مهتمًا بالفنون القتالية وبدأ ممارسة الجودو في سن الثانية عشرة، وهي الرياضة التي يواصل الدفاع عنها حتى يومنا هذا.
لعب التعليم دورًا مهمًا في تشكيل مستقبل بوتن. التحق بجامعة لينينغراد الحكومية، حيث درس القانون، وتخرج عام 1975. ركزت أطروحته على القانون الدولي والتجارة، وهو الموضوع الذي أشار إلى دوره النهائي في تشكيل تفاعلات روسيا مع العالم. خلال سنوات دراسته الجامعية، انضم إلى الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي، وهو ما كان معيارًا للشباب الطموحين الذين يسعون إلى الصعود في المجتمع السوفييتي. خلال هذا الوقت أيضًا تم تجنيد بوتن من قبل المخابرات السوفيتية، وكالة الأمن سيئة السمعة في الاتحاد السوفييتي.
مسيرته المهنية في المخابرات السوفيتية: أساس القوة
بدأت مسيرة بوتن المهنية في المخابرات السوفيتية فور تخرجه من الجامعة. بدأ كضابط مخابرات، وخضع لتدريب صارم للتحضير للعمل السري. في أوائل الثمانينيات، كان متمركزًا في دريسدن، ألمانيا الشرقية، مركز التجسس في الحرب الباردة. خلال فترة وجوده في دريسدن، عمل بوتن كضابط اتصال، وجمع المعلومات الاستخباراتية وتعزيز العلاقات مع وكالات الاستخبارات الألمانية الشرقية.
كان سقوط جدار برلين في عام 1989 بمثابة بداية النهاية للاتحاد السوفييتي كما عطل مسيرة بوتن المهنية. عاد إلى لينينغراد في عام 1990 وسط الاضطرابات السياسية في الاتحاد السوفييتي المتفكك. بحلول هذا الوقت، كانت المخابرات السوفييتية تفقد قبضتها على السلطة، ورأى بوتن الحاجة إلى الانتقال إلى دور جديد. وقد ساعدته علاقاته داخل المخابرات السوفييتية، جنبًا إلى جنب مع مهاراته في الدبلوماسية والتفكير الاستراتيجي، في الاستفادة من المشهد السياسي المتغير بسرعة.
الانتقال إلى السياسة: من مستشار إلى عمدة إلى دائرة الضوء الوطنية
عند عودته إلى لينينغراد، بدأ بوتن العمل في جامعته الأم، جامعة لينينغراد الحكومية، كمساعد لرئيس الجامعة. كان هذا الدور خيارًا استراتيجيًا، لأنه سمح له ببناء علاقات مع شخصيات مؤثرة في المدينة. كان أناتولي سوبتشاك أحد هذه العلاقات، وهو سياسي إصلاحي بارز وعمدة لينينغراد في المستقبل.
في عام 1991، انضم بوتن إلى إدارة سوبتشاك كمستشار. وأدرك سوبتشاك مهارات بوتن التنظيمية وولائه، فعهد إليه بمهام بالغة الأهمية، مثل إدارة العلاقات الدولية وتطوير الأعمال للمدينة. وشمل عمل بوتن جذب الاستثمارات الأجنبية وخلق الشراكات، وهي الخبرة التي أثبتت فيما بعد أنها لا تقدر بثمن في رئاسته.
عندما خسر سوبتشاك إعادة انتخابه في عام 1996، انتقل بوتن إلى موسكو، وهي الخطوة التي شكلت المرحلة التالية من صعوده. وتم تعيينه في سلسلة من الأدوار الإدارية داخل الحكومة الروسية، وذلك بفضل سمعته المتنامية كبيروقراطي كفء ومخلص. وجاءت انطلاقته الكبرى في عام 1998 عندما عينه الرئيس بوريس يلتسين آنذاك رئيسًا لجهاز الأمن الفيدرالي (FSB)، خليفة جهاز المخابرات السوفييتية (KGB). وبعد ذلك بفترة وجيزة، تم تعيينه أيضًا أمينًا لمجلس الأمن.
كيف أصبح رئيسًا للوزراء: الصعود إلى القيادة الوطنية
في عام 1999، واجهت روسيا تحديات كبيرة. كانت البلاد تكافح عدم الاستقرار الاقتصادي والفساد والصراعات الداخلية، وخاصة الحرب الدائرة في الشيشان. وكان الرئيس يلتسين، الذي كانت شعبيته في انخفاض حاد بسبب عجزه الملحوظ عن معالجة هذه الأزمات، يبحث عن خليفة يمكنه تحقيق الاستقرار في البلاد وحماية مصالح النخبة الحاكمة.
في 9 أغسطس 1999، عين يلتسين بوتن رئيسًا للوزراء، وهو شخصية غير معروفة نسبيًا لعامة الناس في ذلك الوقت. فاجأت هذه الخطوة الكثيرين، لكن سرعان ما اتضح أن بوتن لم يكن مجرد بديل. فقد أظهر بسرعة حزمه، وخاصة في التعامل مع الحرب الشيشانية الثانية. وتحت قيادة بوتن، شنت القوات الروسية حملة قوية ضد الانفصاليين الشيشان، مما أكسبه سمعة كزعيم قوي وفعال.
مهد استقالة يلتسين في 31 ديسمبر 1999 الطريق لصعود بوتن إلى الرئاسة.
في خطاب استقالته، أعلن يلتسين أن بوتن سوف يتولى منصب الرئيس بالنيابة، مما يجعله فعلياً زعيماً للبلاد. وقد اعتُبِرت هذه الخطوة بمثابة جهد محسوب من جانب يلتسين لضمان انتقال سلس للسلطة وتأمين الضمانات لأسرته وحلفائه.
الانتخابات الرئاسية لعام 2000: ترسيخ السلطة
كان عام 2000 نقطة تحول بالنسبة لبوتن. فبصفته رئيساً بالنيابة، لم يهدر بوتن أي وقت في تعزيز سلطته. فقد أعطى الأولوية للإصلاحات الاقتصادية، وعزز السيطرة الفيدرالية على مناطق روسيا، وحافظ على موقف صارم بشأن الأمن القومي. وساعدته هذه الإجراءات على اكتساب الشعبية بين الروس العاديين، الذين سئموا من فوضى التسعينيات.
في الانتخابات الرئاسية التي عقدت في مارس/آذار 2000، حقق بوتن فوزاً حاسماً بنسبة 53% من الأصوات، متجنباً بذلك الحاجة إلى جولة إعادة. وكان فوزه بمثابة بداية عصر جديد في السياسة الروسية. وكان يُنظَر إلى بوتن باعتباره زعيماً قادراً على استعادة النظام، وإعادة بناء الاقتصاد، وإعادة ترسيخ مكانة روسيا على الساحة العالمية.
الولاية الأولى لبوتن: الاستقرار والمركزية
خلال ولايته الأولى كرئيس، ركز بوتن على استقرار البلاد. نفذ إصلاحات اقتصادية أدت إلى نمو كبير، بمساعدة أسعار النفط المرتفعة. تضاعف الناتج المحلي الإجمالي لروسيا خلال ولايتيه الأوليين، مما رفع الملايين من براثن الفقر. كما اتخذ خطوات لمركزية السلطة، وإضعاف نفوذ الأوليغارشيين الذين هيمنوا على عصر يلتسين.
سنت إدارة بوتن قوانين عززت السلطة الفيدرالية على الحكومات الإقليمية وقيدت قوة المعارضة السياسية. وفي حين انتقد البعض هذه التدابير باعتبارها استبدادية، إلا أنها كانت شائعة بين الروس الذين فضلوا الاستقرار على فوضى الديمقراطية.
الولاية الثانية: روسيا أقوى
بعد إعادة انتخابه في عام 2004 بأغلبية ساحقة بلغت 71٪ من الأصوات، تميزت ولاية بوتن الثانية بتعزيز أكبر للسلطة. واصل قمع المعارضة، باستخدام وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة لتشكيل الرأي العام وتهميش شخصيات المعارضة. وعلى الصعيد الدولي، تبنى بوتن سياسة خارجية أكثر حزما، فتحدى النفوذ الغربي في الدول السوفييتية السابقة ووسع دور روسيا في الشؤون العالمية.
على الصعيد المحلي، أكد بوتن على القومية والقيم التقليدية، وهي المواضيع التي لاقت صدى لدى العديد من الروس. ومع ذلك، زعم منتقدوه أن سياساته خنقت الديمقراطية وتآكلت حقوق الإنسان.
فترة ميدفيديف: تراجع استراتيجي
بعد أن مُنع بوتن بموجب الدستور من تولي ولاية ثالثة متتالية، تنحى عن منصبه في عام 2008، لكنه ظل مؤثرا كرئيس للوزراء في عهد الرئيس دميتري ميدفيديف. وقد سمح هذا الترتيب، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه مناورة سياسية، لبوتن بالحفاظ على السيطرة مع الالتزام بحرف القانون. وخلال هذه الفترة، قدم ميدفيديف إصلاحات ليبرالية، لكن نفوذ بوتن ضمن ألا تقوض هذه التغييرات أهدافه طويلة الأجل.
العودة إلى السلطة: ولاية بوتن الثالثة وما بعدها
في عام 2012، عاد بوتن إلى الرئاسة وسط احتجاجات واسعة النطاق بشأن مزاعم تزوير الانتخابات. لقد تميزت فترة ولايته الثالثة بموقف أكثر عدوانية، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. فقد أظهر ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 وتورط روسيا في الحرب الأهلية السورية استعداد بوتن لتحدي القوى الغربية.
في الداخل، واجه بوتن معارضة متزايدة لكنه حافظ على قبضته على السلطة من خلال مزيج من القمع والدعاية. وظلت معدلات تأييده مرتفعة، مدعومة بصورة مزروعة بعناية كمدافع عن السيادة الروسية والقيم التقليدية.
حتى اليوم، يظل فلاديمير بوتن أحد أكثر الشخصيات نفوذاً وإثارة للجدل في التاريخ الحديث. لقد حولت زعامته روسيا، للأفضل أو الأسوأ، وتركت سياساته علامة لا تمحى على المسرح العالمي. وسواء كان يُنظر إليه على أنه عامل استقرار أو رجل قوي، فإن صعود بوتن من خلفية متواضعة إلى رئاسة روسيا هو قصة طموح واستراتيجية ومرونة.
مقالة أخرى : أسوأ أساليب التعذيب في تاريخ البشرية