كانت بداية القرن العشرين فترة مضطربة شهدت مقاومة شرسة ضد الاستعمار الأوروبي، ولم يجسد هذه المقاومة أحد بقوة عبد الكريم الخطابي. كان استراتيجياً عسكرياً بارعاً وقائداً كاريزماتياً ورمزاً للتحدي ضد الاستعمار، حيث قاد واحدة من أنجح الثورات ضد الحكم الإسباني والفرنسي في شمال إفريقيا. لقد هز تمرده في جبال الريف أسس الإمبراطوريات الاستعمارية وألهم حركات التحرير في جميع أنحاء العالم. يتعمق هذا المقال في سيرته وحياته وتكتيكاته الثورية وحرب الريف وإرثه الخالد كبطل قومي.
بذور المقاومة

في أوائل القرن العشرين، وقع المغرب في قبضة الاستعمار الأوروبي. فبموجب معاهدة فاس عام 1912، قُسم المغرب إلى محميتين فرنسية وإسبانية، حيث سيطرت إسبانيا على منطقة الريف الشمالية. فرضت الإدارة الاستعمارية ضرائب باهظة واستنزفت الموارد وتجاهلت الحكم المحلي، مما أشعل السخط بين القبائل الأمازيغية.
في البداية، عمل عبد الكريم ضمن النظام الاستعماري، حيث عمل كاتباً ومترجماً للإدارة الإسبانية. لكن بعد اعتقال والده (واحتمال تسميمه) لمعارضته السياسات الإسبانية، تشدد موقفه. في عام 1919، سُجن بسبب انتقاده الحكم الإسباني، وهي تجربة زادت من تشبعه بروح الثورة. بعد إطلاق سراحه، عاد إلى الريف وبدأ في تنظيم التمرد، موحداً القبائل الأمازيغية المتناحرة تحت راية واحدة: طرد المحتلين الأجانب.
جمهورية الريف: تجربة جريئة للاستقلال

بحلول عام 1921، نجح عبد الكريم في حشد الدعم الكافي لشن ثورة شاملة. وقع الإسبان، الذين استهانوا بقوات الريف، في هزيمة كارثية في معركة أنوال في يوليو 1921، حيث قُتل أكثر من 12 ألف جندي إسباني في واحدة من أسوأ الكوارث العسكرية في التاريخ الاستعماري الأوروبي. لم تعزز هذه الانتصارات معنويات المقاتلين الريفيين فحسب، بل سمحت لعبد الكريم بإعلان جمهورية الريف في عام 1923—وهي دولة مستقلة قصيرة العمر لكنها كانت تجربة رائدة.
كانت جمهورية الريف تجربة فريدة في الحكم الذاتي. قام عبد الكريم بإصلاحات إدارية وأسس نظاماً قضائياً قائماً على الشريعة الإسلامية وقدم مشاريع بنية تحتية حديثة. كما شكل حكومة مركزية وأصدر جوازات سفر وعملة خاصة، مما أظهر رؤيته لدولة أمازيغية مستقلة. كانت قدرته على توحيد القبائل المتنافسة تقليدياً تحت كيان سياسي واحد إنجازاً غير مسبوق، مما أظهر مهاراته الدبلوماسية والقيادية.
التحالف الفرنسي-الإسباني وسقوط الثورة

أثار نجاح جمهورية الريف قلق إسبانيا وفرنسا، اللتين خشيتا من أن تلهم الثورة انتفاضات في مستعمراتهما الأخرى. في عام 1925، شكلت القوتان الاستعماريتان تحالفاً عسكرياً غير مسبوق، حيث نشرتا أكثر من 250 ألف جندي مع أسلحة ثقيلة وحتى أسلحة كيميائية ضد المقاومة الريفية.
كان استخدام غاز الخردل من قبل القوات الإسبانية والفرنسية من أوائل حالات الحرب الكيميائية على نطاق واسع في التاريخ. دُمرت قرى بأكملها، وبالرغم من المقاومة الشرسة، تضاءلت قوات الريف تدريجياً تحت وطأة القوة النارية الهائلة للعدو. بعد عام من القتال الدموي، استسلم عبد الكريم في عام 1926 لتجنب المزيد من الخسائر المدنية. نُفي إلى جزيرة لا ريونيون التابعة لفرنسا في المحيط الهندي، حيث قضى أكثر من عقدين في الأسر.
النفي والسنوات اللاحقة

في عام 1947، سُمح لعبد الكريم بالانتقال إلى فرنسا، لكنه أثناء توقفه في مصر، هرب وطلب اللجوء السياسي. قضى بقية حياته في القاهرة، حيث أصبح صوتاً بارزاً في الحركة المناهضة للاستعمار، داعماً نضالات التحرير في الجزائر وتونس وما وراءهما. كما كان شخصية محورية في “لجنة تحرير المغرب العربي”، داعياً إلى وحدة شمال إفريقيا ضد الهيمنة الأوروبية.
توفي عبد الكريم الخطابي في 6 فبراير 1963، بعد عامين فقط من حصول المغرب على الاستقلال الكامل. ورغم أنه لم يعد إلى وطنه، إلا أن إرثه بقي رمزاً للمقاومة. أثرت تكتيكاته الحربية على ثوار لاحقين مثل هو تشي منه وتشي جيفارا، الذين درسوا استراتيجياته في كفاحهم ضد الاستعمار.