تُعد شركة بوينغ واحدة من أكثر الشركات تأثيراً ورسوخاً في صناعة الطيران والفضاء. بدايةً من نشأتها المتواضعة في حوض لبناء السفن في سياتل وحتى تحولها إلى أكبر شركة في مجال الطيران والفضاء في العالم، فإن تاريخ بوينغ هو سجل حافل بالابتكار والمجازفات والانتصارات والتحديات. هذه هي قصة كيف قام رجل واحد برؤية ثاقبة وفريق من المهندسين المتفانين بإعادة تشكيل عالم الطيران والدفاع العسكري واستكشاف الفضاء.
السنوات الأولى: ويليام بوينغ ونشأة الإمبراطورية

تبدأ قصة بوينغ مع مؤسسها، ويليام إدوارد بوينغ، وهو رجل أعمال ثري في مجال الأخشاب كان شغوفاً بالطيران. وُلد في ديترويت عام 1881، وانتقل إلى شمال غرب المحيط الهادئ، حيث بنى ثروته في صناعة الأخشاب. بدأ شغفه بالطيران عام 1910 عندما حضر أول معرض جوي في لوس أنجلوس. وبحلول عام 1915، أخذ دروس طيران من غلين إل. مارتن (الذي أسس لاحقاً شركة مارتن للطائرات) واشترى طائرته الخاصة.
غير راضٍ عن جودة الطائرات في ذلك الوقت، تعاون بوينغ مع المهندس البحري جورج كونراد ويسترفيلت لتصميم طائرة مائية أفضل. وفي عام 1916، أسسا معاً شركة باسيفيك أيرو برودكتس في حوض لبناء القوارب في سياتل. كانت أول طائرة لهما، طائرة B&W المائية (سميت على اسمهما)، قد حلقت في يونيو 1916. وبعد عام، مع دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى، أعيدت تسمية الشركة إلى شركة بوينغ للطائرات.
أصبح الجيش الأمريكي أول عميل رئيسي لبوينغ، حيث طلب 50 طائرة تدريب مائية من طراز موديل C. وقد مهد هذا النجاح المبكر الطريق لمستقبل بوينغ في مجال الطيران العسكري والتجاري.
فترة ما بين الحربين: التوسع والابتكار

بعد الحرب العالمية الأولى، شهدت صناعة الطيران تراجعاً بسبب توقف العقود العسكرية. تنوعت بوينغ في صناعة الأثاث والقوارب السريعة للبقاء واقفة. لكن الشركة سرعان ما عادت إلى مجال الطيران مع التركيز على خدمة البريد الجوي.
في عام 1927، فازت بوينغ بعقد من خدمة البريد الأمريكية لنقل البريد بين سان فرانسيسكو وشيكاغو. ولتنفيذ ذلك، أنشأت بوينغ شركة بوينغ للنقل الجوي (BAT)، التي تطورت لاحقاً إلى يونايتد إيرلاينز. وفي نفس العام، قدمت بوينغ طائرتها موديل 40، وهي طائرة ذات سطحين يمكنها حمل البريد والركاب، مما مثل بداية دخول الشركة في مجال الطيران التجاري.
شهدت ثلاثينيات القرن العشرين صعود بوينغ كمبتكرة في مجال الطائرات المعدنية بالكامل. كانت طائرة بوينغ 247 (1933) أول طائرة ركاب حديثة، مزودة بعجلات قابلة للسحب وطيار آلي وتصميم انسيابي. لكن منافستها، طائرة DC-3 من شركة دوغلاس للطائرات، سرعان ما تفوقت عليها.
جاء الاختراق الحقيقي لبوينغ مع القاذفة B-17 فلاينج فورتريس (1935)، وهي قاذفة ثقيلة لعبت دوراً حاسماً في الحرب العالمية الثانية. بفضل تصميمها المتين، مداها الطويل، وقدرتها على حمل الأحمال الثقيلة، أصبحت حجر الزاوية في سلاح الجو الأمريكي.
الحرب العالمية الثانية وعصر الطائرات النفاثة

حوّلت الحرب العالمية الثانية بوينغ إلى قوة صناعية عملاقة. أنتجت الشركة أكثر من 12,000 طائرة B-17، وطورت القاذفة B-29 سوبرفورتريس، التي أسقطت القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي عام 1945.
بعد الحرب، واجهت بوينغ تراجعاً جديداً، لكنها تحولت إلى الطيران المدني. أحدثت طائرة بوينغ 707 (1957) ثورة في السفر الجوي كأول طائرة نفاثة ناجحة في أمريكا، معلنة بدء عصر الطائرات النفاثة. تبع ذلك نجاح طائرة بوينغ 727 (1963) الأصغر حجماً، وطائرة بوينغ 747 (1969)، أول طائرة جامبو في العالم.
كانت الـ 747، التي لقبت بـ “ملكة السماوات”، مقامرة كبيرة. راهنت بوينغ على مستقبلها بالكامل في هذه الطائرة، حتى أنها رهنت مصانعها لتمويل التطوير. وقد نجحت المجازفة—فأصبحت الـ 747 أشهر طائرة ركاب في التاريخ، وهيمنت على الرحلات الجوية لمسافات طويلة لعقود.
سباق الفضاء والهيمنة العسكرية
إلى جانب الطائرات التجارية، أصبحت بوينغ لاعباً رئيسياً في سباق الفضاء. ساهمت في برنامج أبولو التابع لناسا، حيث بنت المرحلة الأولى من صاروخ ساتورن V. كما طورت المركبة القمرية المستخدمة في بعثات أبولو الأخيرة.
في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وسعت بوينغ نفوذها من خلال عمليات الاستحواذ، واندمجت مع ماكدونيل دوغلاس عام 1997 لتصبح أكبر شركة في مجال الطيران والفضاء في العالم. كما قادت تطوير طائرات عسكرية مثل القاذفة B-52 ستراتوفورتريس، والمقاتلة F-15 إيغل، والمقاتلة F/A-18 سوبر هورنت.
اقرا ايضا اختراع القهوة وكره العرب لها في الماضي