يحتفي تاريخ العلوم في العالم الإسلامي بالعديد من العباقرة الذين وضعوا أسس التقدم العلمي الحديث. ومن بين هؤلاء يبرز اسم تقي الدين محمد بن معروف الشامي الأسدي، العالم الموسوعي في القرن السادس عشر، والذي ترك إنجازات رائدة في علم الفلك والهندسة والميكانيكا، ممثلةً ذروة التقدم العلمي العثماني. وُلد تقي الدين في دمشق حوالي عام 1526، وتولى منصب رئيس الفلكيين في بلاط السلطان مراد الثالث، حيث بنى أحد أكثر المراصد تطورًا في عصره وصمم أدوات علمية مبتكرة. ومع ذلك، كادت إنجازاته أن تُنسى بسبب المعارضة السياسية والدينية. تسلط هذه المقالة الضوء على حياته، اختراعاته، والظروف التي رفعته ثم كادت تمحو إرثه.
النشأة والتعليم

نشأ تقي الدين في دمشق، التي كانت آنذاك جزءًا من الدولة العثمانية، في عائلة علمية. أظهر منذ صغره شغفًا بالرياضيات والعلوم الطبيعية، وتتلمذ على يد كبار علماء عصره. تلقى تعليمًا إسلاميًا تقليديًا في الفقه واللاهوت والفلسفة، لكن شغفه الحقيقي كان بالعلوم الدقيقة مثل الفلك والبصريات والميكانيكا.
بعد إكمال دراسته، انتقل إلى مصر حيث تعمق في علوم الفلك والهندسة، واكتسب سمعة كعالم بارز، مما لفت انتباه المسؤولين العثمانيين. وبحلول منتصف القرن السادس عشر، عُيّن مُنجّم باشي (رئيس الفلكيين) في إسطنبول خلال عهد السلطان سليم الثاني.
مرصد إسطنبول: تحفة الطموح العلمي

يُعد مرصد إسطنبول، الذي أسسه تقي الدين عام 1577، أعظم إنجازاته. بُني المرصد على تلال منطقة طوبخانة المطلة على البوسفور، وكان أحد أكبر وأكثر المراصد تطورًا في العالم الإسلامي، بل ينافس مرصدي مراغة وسمرقند العريقين.
زود تقي الدين مرصده بأدوات متطورة، كثيرًا منها من تصميمه الخاص، مثل:
- السدس الفلكي: أداة ضخمة لرصد مواقع النجوم والكواكب بدقة غير مسبوقة.
- الساعات الميكانيكية: طوّر تقي الدين تصميماتها لتصبح أكثر دقة في قياس الوقت.
- الإسطرلابات والرباعيات: أدوات أساسية في الرصد الفلكي ورسم الخرائط السماوية.
لم يكن المرصد مكانًا للرصد فحسب، بل كان مركزًا للأبحاث النظرية. فقد صحح تقي الدين وفريقه أخطاءً في الجداول الفلكية القديمة، ووضع نظريات حول حركة الكواكب تسبقت بعض اكتشافات يوهانس كبلر لاحقًا.
إسهاماته خارج علم الفلك

رغم هدم المرصد، امتد تأثير تقي الدين إلى مجالات أخرى. ألف أكثر من 90 كتابًا، شملت:
1. الهندسة الميكانيكية
في كتابه “الطرق السنية في الآلات الروحانية”، وصف آلات ذاتية الحركة ومضخات مائية وأجهزة تعمل بالبخار. يعتقد بعض المؤرخين أن تصميماته لتوربين بخاري سبقت التطورات الأوروبية اللاحقة.
2. البصريات
بنيًا على أعمال ابن الهيثم، درس تقي الدين انكسار الضوء وطبيعة الرؤية، مساهمًا في تطور علم البصريات.
3. الرياضيات
كتب في الحساب والهندسة والمثلثات، وحسّن طرقًا حسابية استُخدمت في الفلك والهندسة.
4. الأسلحة
صمم تقنيات عسكرية متطورة، بما في ذلك مدفعية متطورة وتركيبات جديدة للبارود.
الخاتمة
قصة تقي الدين هي مزيج من العبقرية والمأساة. كان عالمًا عظيمًا في إمبراطورية احترمت المعرفة وخافتها في آن واحد. دفع حدود العلم إلى الأمام، لكن عمله دُمر بسبب الخرافات والصراعات السياسية. ومع ذلك، بقي إرثه خالدًا في مخطوطاته وأفكاره، ليذكرنا بالعلاقة الهشة بين العلم والسلطة. حياته شهادة على السعي الأبدي للمعرفة… والعقبات التي تعترض طريقها.
اقرا ايضا قصة العالم الخوارزمي: أبو الجبر