في السرد الكبير لتاريخ العلم، تبرز بعض الأسماء بينما تظل أخرى مخفية بفعل مرور الزمن – عقول عبقرية كانت إسهاماتها أساسية لكنها طواها النسيان. ومن بين هذه الشخصيات المنسية تأتي مريم الأسطرلابي (المعروفة أيضاً باسم مريم الإجلية)، عالمة الفلك والمهندسة السورية من القرن العاشر الميلادي، التي برعت في تصميم الأسطرلابات – تلك الحواسيب الفلكية المتطورة في العالم الإسلامي الوسيط – مما وضعها بين أهم علماء عصرها. لكن على عكس معاصريها الذكور مثل البتاني أو الفرغاني، ظلت قصة مريم حبيسة الهوامش، ولم ينج من إرثها سوى شذرات متفرقة من النصوص التاريخية.
ما نعرفه عنها يرسم صورة لامرأة تحدت قيود عصرها، وأتقنت علماً كان يتطلب عبقرية رياضية وحرفية استثنائية. لم يكن الأسطرلاب مجرد أداة عادية، بل كان آلة معقدة لحساب الوقت ومواقع النجوم والملاحة، وكان رمزاً للمكانة العلمية وجسراً بين الأرض والسماء. ولم تكن مريم مجرد مستخدمة لهذه الأجهزة، بل كانت واحدة من أندر النساء المسجلات في التاريخ كصانعة للأسطرلابات (أسطرلابية)، وهي حرفية بلغت من الدقة والابتكار ما جعلها تحظى بالتقدير في بلاطات الحكام الأقوياء.
العالم الذي عاشت فيه مريم: العصر الذهبي الإسلامي وازدهار علم الفلك

لفهم إنجازات مريم، يجب علينا أولاً أن نخطو إلى المناخ الفكري الحيوي لشرق العالم الإسلامي في القرن العاشر الميلادي. كان الخلفاء العباسيون قد أرسوا نهضة علمية غير مسبوقة، حيث قام العلماء بترجمة وتطوير المعارف اليونانية والفارسية والهندية. واحتل علم الفلك مكانة خاصة – ليس فقط لأغراض دينية (تحديد أوقات الصلاة واتجاه القبلة) بل أيضاً للملاحة والزراعة وحتى التنجيم الذي كان يعتبر علماً مشروعاً آنذاك.
كانت مدن مثل حلب، حيث عاشت مريم وعملت، مراكز إشعاع علمي. فسلالة الحمدانيين التي حكمت شمال سوريا رعت العلماء والفنانين، مما خلق بيئة مواتية للابتكار. في هذا الإطار، تدربت مريم على يد والدها الإجلية صانع الأسطرلابات، وتعلمت الفن المعقد لتصميم هذه الأجهزة. وعلى عكس كثير من نساء عصرها اللاتي حُرمْن من التعليم، فإن تدريب مريم العائلي سمح لها بدخول مجال كان يهيمن عليه الرجال – وهي نادرة تشير إلى امتيازها وإلى تصميمها في الوقت نفسه.
لم يكن الأسطرلاب مجرد أداة بسيطة. إذ كان يوصف بأنه “هاتف العصور الوسطى الذكي”، حيث كان يمكنه حساب مواقع النجوم ومعرفة الوقت وحتى المساعدة في مسح الأراضي. وكان صنعه يتطلب خبرة في الهندسة الكروية والسباكة والنقش – مهارات أتقنتها مريم الأسطرلابي بإتقان نادر جعل سمعتها تصل إلى بلاط سيف الدولة الحمداني، حاكم حلب المعروف برعايته للشعراء والعلماء. وتشير المصادر التاريخية إلى أنها عملت تحت رعايته، وهو إنجاز استثنائي نظراً لأن معظم العلماء المسجلين في ذلك العصر كانوا رجالاً.
فن وعلم صناعة الأسطرلاب

فما الذي كانت تتضمنه أعمال مريم بالضبط؟ لقد كان صنع الأسطرلاب تحدياً متعدد التخصصات، يجمع بين المعرفة النظرية والمهارة الحرفية. إليك كيف كانت تتم العملية، وأين تكمن عبقرية مريم:
1. التصميم والحساب
كان كل أسطرلاب يصمم خصيصاً لخط عرض معين، مما كان يتطلب من الصانع حساب مواقع النجوم بدقة فائقة، ورسم دائرة البروج وخطوط الأفق. وكانت مريم تستخدم الجداول الفلكية (مثل تلك التي وضعها البتاني) لرسم هذه الإحداثيات على صفيحة نحاسية، مع ضمان الدقة حتى أدق التفاصيل.
2. نقش القاعدة والصفائح
كان جسم الأسطرلاب (الأم) يحمل صفائح قابلة للتبديل منقوشة عليها خطوط السمت والخرائط السماوية. وكانت براعة مريم الأسطرلابي تتجلى في دقة نقوشها – حيث أن خطأً بسيطاً بمقدار مليمتر واحد كان يمكن أن يجعل الجهاز عديم الفائدة. كما أن بعض الأسطرلابات كانت تتضمن مؤشرات نجمية بديعة على شكل أوراق شجر أو حيوانات، مما يظهر براعة فنية إلى جانب الدقة التقنية.
3. الشبكة: خريطة نجمية هيكلية
أكثر الأجزاء جمالاً كان الشبكة، وهو قرص دوار يشبه الشبكة يمثل النجوم الثابتة. وكانت مهارة مريم في قطع النحاس بدقة دون تشويهه عاملاً حاسماً هنا. وتلمح بعض المصادر التاريخية إلى أنها ربما قدمت تصاميم مبتكرة، مثل تحسين محاذاة النجوم أو وضع علامات أكثر سهولة للمستخدمين.
4. التطبيقات العملية
لم تكن الأسطرلابات مجرد ألعاب نظرية، بل كانت تستخدم يومياً من قبل:
- الملاحين لتحديد خط العرض في البحر.
- علماء الفلك للتنبؤ بالكسوف.
- المهندسين المعماريين لمحاذاة المباني مع الأحداث السماوية.
وكانت أدوات مريم تُقدر كثيراً لدقتها، وربما رافقت التجار على طول طريق الحرير.
ندرة السجلات: لماذا كادت قصة مريم أن تُنسى

رغم إنجازاتها، لم ينج من ذكر مريم سوى إشارتان موجزتان: واحدة في كتاب الفهرست لابن النديم، وأخرى عند العالم السجزي. فما سبب هذا التهميش؟
- التحيز الجندري في التأريخ الوسيط
ركز معظم المؤرخين على العلماء الذكور، وتجاهلوا إسهامات النساء إلا إذا كن من الملكات أو الشاعرات. حتى العالمات الاستثنائيات مثل مريم ظللن مجرد هوامش. - طبيعة الأدوات القابلة للتلف
على عكس الكتب، كانت الأسطرلابات أ objects مادية عرضة للتلف. ولم ينج سوى القليل منها اليوم، والقليل جداً منها نعرف من صنعه. - التاريخ الشفوي المفقود
كانت المعرفة الحرفية تنتقل شفهياً في كثير من الأحيان. وبدون سجلات مكتوبة، ظلت تقنيات مريم مجرد تخمينات.
الخاتمة
حياة مريم الأسطرلابي أشبه بلوحة فسيفساء – قطع متفرقة توحي بصورة أكبر طواها النسيان. لكن حتى هذه الشذرات تكشف عن امرأة تفوقت في مجال جمع بين الفكر والمهارة اليدوية، والتي ربما قادت أدواتها المسافرين وعلماء الفلك والحالمين.
تحدينا قصتنا أن ننظر بعمق في زوايا التاريخ المظلمة، وأن نسأل: كم من “مريمات” أخريات فاتنا؟ بإحياء ذكراها، نكرم ليس فقط عالمة واحدة، بل عدداً لا يحصى من الأصوات المنسية التي ساهمت في فهمنا للكون.
واليوم، بينما نتأمل النجوم، ربما يمكننا أن نتخيل مريم تفعل الشيء نفسه قبل ألف عام – وبيدها أسطرلابها، ترسم السماء بدقة لا تزال تلهمنا حتى الآن.
اقرا ايضا قصة ابن سينا: حياة وإرث عقل متألق