الحرب العالمية الأولى، والمعروفة أيضًا بـ “الحرب العظمى”، كانت من أعنف النزاعات في تاريخ البشرية، واندلعت بين عامي 1914 و1918. أدت هذه الحرب إلى تغيرات جذرية في الخريطة السياسية للعالم، وأسفرت عن سقوط إمبراطوريات وتأسيس دول جديدة. لفهم أبعاد هذه الحرب، نحتاج إلى الغوص في أسبابها وتفاصيلها وآثارها التي امتدت لعقود لاحقة.
الحرب وأسبابها
بدأت الحرب العالمية الأولى في 28 يونيو 1914 عندما تم اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند، ولي عهد الإمبراطورية النمساوية-المجرية، في سراييفو على يد غافريلو برينسيب، وهو قومي صربي من منظمة سرية تُعرف بـ “اليد السوداء”. كان هذا الاغتيال شرارة أشعلت التوترات القديمة بين الدول الأوروبية.
إلا أن جذور الحرب تعود إلى عدة عوامل هيكلية، منها:
- التحالفات العسكرية: كانت أوروبا مقسمة إلى تحالفات متنافسة. تحالف الدول المركزية (النمسا-المجر وألمانيا والإمبراطورية العثمانية وإيطاليا لفترة) وتحالف القوى المتحالفة (بريطانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا لاحقًا بعد خروجها من التحالف مع ألمانيا).
- السباق التسليحي: شهدت أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين سباقًا محمومًا للتسليح، حيث تسابقت الدول الأوروبية الكبرى في بناء جيوش وأساطيل بحرية ضخمة.
- الإمبريالية: تنافست القوى الكبرى على السيطرة على المستعمرات في إفريقيا وآسيا، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين هذه القوى.
- النزعة القومية: كانت الحركات القومية قوية في العديد من المناطق، وخاصة في البلقان، حيث سعت مجموعات عرقية إلى تحقيق استقلالها.
اندلاع الحرب
بعد اغتيال الأرشيدوق، قدمت النمسا-المجر إنذارًا نهائيًا إلى صربيا في 23 يوليو 1914، والذي تضمن مطالب قاسية. على الرغم من أن صربيا وافقت على معظم المطالب، إلا أن النمسا-المجر أعلنت الحرب على صربيا في 28 يوليو 1914.
هذا الإعلان أشعل سلسلة من التحالفات العسكرية:
- روسيا، حليفة صربيا، بدأت بتعبئة قواتها.
- ألمانيا، حليفة النمسا-المجر، أعلنت الحرب على روسيا في 1 أغسطس 1914.
- بعد ذلك بيومين، أعلنت ألمانيا الحرب على فرنسا.
- بريطانيا دخلت الحرب في 4 أغسطس 1914 بعد غزو ألمانيا لـ بلجيكا.
وهكذا، اندلعت الحرب بين الدول الكبرى في أوروبا.
جبهات القتال
مع اندلاع الحرب، بدأت الجيوش تتحرك نحو جبهات متعددة:
- الجبهة الغربية: ركزت معظم العمليات العسكرية في بداية الحرب على هذه الجبهة التي امتدت بين فرنسا وبلجيكا وألمانيا. في سبتمبر 1914، حدثت معركة المارن الأولى التي أوقفت تقدم القوات الألمانية نحو باريس. ومنذ ذلك الحين، استقرت الجبهة الغربية على نظام الخنادق، الذي استمر لمعظم سنوات الحرب.
- الجبهة الشرقية: شهدت هذه الجبهة معارك بين ألمانيا والنمسا-المجر من جهة وروسيا من جهة أخرى. ورغم الانتصارات الأولية لروسيا، إلا أن الجيش الألماني استطاع لاحقًا تحقيق انتصارات حاسمة.
- الجبهة الإيطالية: دخلت إيطاليا الحرب في عام 1915 إلى جانب الحلفاء، وكانت هناك معارك عنيفة على طول الحدود بين إيطاليا والنمسا-المجر.
- الجبهة العثمانية: دخلت الإمبراطورية العثمانية الحرب إلى جانب الدول المركزية في 1914، وكانت معارك بارزة في جاليبولي وبلاد الشام والعراق.
أهم المعارك والأحداث
خلال سنوات الحرب الأربعة، شهدت الساحة العسكرية العديد من المعارك الكبرى التي شكلت مجريات الحرب:
- معركة فردان (1916): واحدة من أطول وأعنف معارك الحرب العالمية الأولى. حاول الألمان استنزاف الجيش الفرنسي، لكن المعركة انتهت بانتصار استراتيجي لفرنسا بعد شهور من القتال وخسائر فادحة على الجانبين.
- معركة السوم (1916): في نفس العام، شن الحلفاء هجومًا ضخمًا ضد القوات الألمانية على نهر السوم في فرنسا. كانت إحدى أكثر المعارك دموية في تاريخ البشرية، حيث قُتل أو جُرح أكثر من مليون جندي.
- معركة جاليبولي (1915-1916): كانت محاولة فاشلة من الحلفاء للسيطرة على المضائق البحرية التي تربط البحر الأسود بالبحر الأبيض المتوسط. لعبت القوات الأسترالية والنيوزيلندية دورًا بارزًا في هذه المعركة.
- الثورة الروسية (1917): كانت واحدة من أهم الأحداث التي غيرت مجرى الحرب. بعد أن عانت روسيا من خسائر كبيرة في الجبهة الشرقية، اندلعت الثورة في الداخل، وأدت إلى الإطاحة بالنظام القيصري وتوقيع روسيا على معاهدة برست-ليتوفسك مع ألمانيا، التي أنهت الحرب بين البلدين.
دخول الولايات المتحدة
في البداية، كانت الولايات المتحدة محايدة في الحرب، لكن عدة عوامل دفعت الرئيس وودرو ويلسون لإعلان الحرب على ألمانيا في أبريل 1917. من بين هذه العوامل:
- الهجمات بالغواصات الألمانية على السفن التجارية، وخاصة بعد غرق السفينة البريطانية لوسيتانيا في عام 1915، والتي كان على متنها أمريكيون.
- التلغراف الزيمرماني، وهو محاولة ألمانية لتشجيع المكسيك على مهاجمة الولايات المتحدة.
دخلت الولايات المتحدة الحرب وأرسلت مئات الآلاف من الجنود إلى الجبهة الغربية. بحلول عام 1918، ساعدت القوات الأمريكية في تغيير موازين القوى لصالح الحلفاء.
نهاية الحرب
بدأت الحرب تأخذ منحى جديدًا في عام 1918، حيث تمكن الحلفاء من اختراق خطوط الدفاع الألمانية. في أكتوبر 1918، بدأت ألمانيا في التفاوض على هدنة، وفي 11 نوفمبر 1918، وقعت الهدنة التي أنهت العمليات القتالية.
بعد انتهاء الحرب، تم التوقيع على معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919، والتي فرضت شروطًا قاسية على ألمانيا. تضمنت المعاهدة:
- تحميل ألمانيا مسؤولية الحرب.
- فرض تعويضات مالية هائلة.
- تقليص الجيش الألماني وتقييد إنتاج الأسلحة.
- إعادة ترسيم الحدود الألمانية وفقدانها لأراضٍ كبيرة.
آثار الحرب العالمية الأولى
خلفت الحرب العالمية الأولى آثارًا عميقة على العالم:
- الخسائر البشرية: بلغ عدد القتلى حوالي 10 ملايين جندي و7 ملايين مدني، بالإضافة إلى ملايين الجرحى والمشردين.
- سقوط الإمبراطوريات: أدت الحرب إلى سقوط الإمبراطوريات العظمى مثل الإمبراطورية النمساوية-المجرية والإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية الروسية.
- التغيرات السياسية: أدى سقوط الإمبراطوريات إلى ظهور دول جديدة على الساحة الأوروبية مثل بولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا.
- التمهيد للحرب العالمية الثانية: كانت معاهدة فرساي واحدة من العوامل التي ساهمت في نشوب الحرب العالمية الثانية. الشروط القاسية التي فرضت على ألمانيا ساهمت في تصاعد الاستياء الوطني، ما مهد الطريق لظهور أدولف هتلر وصعود الحزب النازي.
خلاصة
كانت الحرب العالمية الأولى حدثًا تاريخيًا غيّر مجرى التاريخ بشكل جذري. رغم انتهاء الحرب في عام 1918، إلا أن آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية استمرت لعقود. المعاناة التي شهدتها الشعوب، والتحولات التي عرفها العالم بعد الحرب، جعلت من هذا الصراع العنيف درسًا دائمًا للبشرية حول تكلفة الحروب والدمار الذي قد تجلبه.