يظل ليوناردو دا فينشي أحد أكثر الشخصيات إثارة للدهشة في التاريخ البشري — رجلٌ تجاوز عبقريته الفن والعلم والهندسة والفلسفة. وُلِد في قلب عصر النهضة، وهي الفترة التي شهدت إحياء المعرفة الكلاسيكية وانفجارًا من الإبداع، فأصبح ليوناردو تجسيدًا لـ”رجل النهضة”، ذلك العالِم الموسوعي الذي لا تعرف فضولُه حدودًا. كانت حياته نسيجًا من التحف الفنية والاكتشافات العلمية والاختراعات الرؤيوية، وكثيرٌ منها كان متقدمًا على عصره بقرون. لفهم ليوناردو، يجب أن ننغمس في عقل رجل رأى العالم بشكل مختلف، وشكك في كل شيء، ولا يزال إرثه يلهم الذهول بعد قرون من وفاته.
الفترة الفلورنسية (1466–1482): تشكيل الفنان

خلال وجود ليوناردو دا فينشي في فلورنسا، طور ليوناردو أسلوبه المميز — الاهتمام الدقيق بالتفاصيل، والتعابير الواقعية، والفهم العميق للتشريح البشري. تُظهر أقدم أعماله المعروفة، مثل “البشارة” (حوالي 1472)، قدرته على المزج بين الواقعية والجمال السماوي. لكن لوحته “جينيفرا دي بينتشي” (حوالي 1474–1478)، وهي صورة لامرأة نبيلة شابة من فلورنسا، هي التي عرضت تقنياته الثورية، بما في ذلك استخدام المنظور الجوي والعمق النفسي.
رغم سمعته المتنامية، واجه ليوناردو انتكاسات. ففي عام 1476، اتُهم anonymously باللواط — تهمة خطيرة في فلورنسا عصر النهضة. رغم تبرئته لعدم كفاية الأدلة، ربما أثرت الفضيحة على قراره بمغادرة فلورنسا. كما أن إحباطه من عائلة ميديتشي، الأسرة الحاكمة في فلورنسا، التي فضلت فنانين تقليديين مثل بوتيتشيلي على أساليبه التجريبية، لعب دورًا أيضًا.
الفترة الميلانية (1482–1499): بلاط لودوفيكو سفورزا

في عام 1482، سعيًا وراء فرص جديدة، انتقل ليوناردو إلى ميلانو تحت رعاية لودوفيكو سفورزا، الحاكم الفعلي للمدينة. بدلًا من تقديم نفسه كفنان، عرض ليوناردو خدماته كمهندس عسكري، مذكرًا بمهاراته في تصميم الجسور والمدافع وآلات الحصار. هذه الخطوة الاستراتيجية ضمنت له مكانة مستقرة في البلاط، حيث بقي قرابة عقدين.
في ميلانو، أنتج ليوناردو بعض أشهر أعماله. “العشاء الأخير” (1495–1498)، المرسوم على جدار دير سانتا ماريا ديلي غراتسي، أحدث ثورة في الفن الديني بتكوينه الدرامي وشدته العاطفية. على عكس الصور التقليدية الثابتة، أمسك ليوناردو اللحظة التي يعلن فيها يسوع خيانة أحدهم، مع رد فعل كل تلميذ بالصدمة أو الغضب أو اليأس. لسوء الحظ، أدى استخدامه التجريبي للزيت والتمبيرا على الجص الجاف إلى تدهور سريع، وبدأ الجدار يتقشر في غضون سنوات من اكتماله.
إلى جانب الرسم، انغمس ليوناردو في الدراسات العلمية. قام بتشريح جثث بشرية (غالبًا في الخفاء، إذ حرمتها الكنيسة) لفهم التشريح، وأنتج رسومات مفصلة للعضلات والعظام وحتى تطور الجنين. تكشف دفاتر ملاحظاته من هذه الفترة عن دراسات في الهيدروليكا والطيران والتخطيط الحضري — بما في ذلك تصاميم لمدينة مثالية بأنظمة صرف صحي لمنع تفشي الطاعون.
العودة إلى فلورنسا (1500–1506): ذروة الإتقان الفني
بعد غزو الفرنسيين لميلانو عام 1499، فر ليوناردو، متنقلًا عبر البندقية (حيث وضع خططًا دفاعية ضد غزوات العثمانيين) قبل عودته إلى فلورنسا عام 1500. كانت المدينة قد تغيرت — فقد انتهى حكم سافونارولا المتشدد، وكانت الجمهورية تعيد البناء. أصبح ليوناردو الآن سيدًا مشهورًا، وشكلت عودته بداية أكثر فتراته الفنية إنتاجًا.
في هذا الوقت، رسم “الموناليزا” (حوالي 1503–1506)، صورة لليزا جيرارديني، زوجة التاجر الفلورنسي فرانشيسكو ديل جيوكوندو. جعلتها ابتسامتها الغامضة، والتدرجات الدقيقة للضوء (السمباتو)، والخلفية الطبيعية الغامرة تحفة فورية. على عكس الصور المعاصرة الجامدة والرسمية، بدت الموناليزا حية، ونظرتها تتبع المشاهد. أبقى ليوناردو اللوحة معه حتى وفاته، محسنًا إياها باستمرار.
في الوقت نفسه، عمل على “معركة أنغياري” (1503–1506)، وهي لوحة جدارية ضخمة كُلِّف بها لقصر فيكيو في فلورنسا. كان المقصود تصوير انتصار عسكري فلورنسي، لكن العمل أُهمل بسبب صعوبات تقنية، ولم يبقَ سوى رسوماته الأولية كسجل لما كان يمكن أن يكون أحد أعظم أعماله.
اقرا ايضا قصة شركة مارلبورو