يُعتبر ديمتري مندليف أحد أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ العلم، وأشهر ما عُرِف به هو وضعه للجدول الدوري للعناصر. لم يقتصر عمله على إحداث ثورة في علم الكيمياء فحسب، بل وفر أيضًا إطارًا استرشاديًا استمر في توجيه الاكتشافات العلمية لأجيال قادمة. ومع ذلك، كانت حياة مندليف أكثر من مجرد هذا الإنجاز الفريد—لقد كانت رحلة مليئة بالمثابرة والفضول الفكري والسعي الدؤوب للمعرفة وسط تحديات شخصية ومهنية.
النشأة والتعليم

وُلِد ديمتري مندليف في 8 فبراير 1834 في بلدة توبولسك النائية في سيبيريا بروسيا. وكان أصغر إخوته الأربعة عشر في عائلة تعاني من عدم الاستقرار المالي. كان والده، إيفان بافلوفيتش مندليف، مدرسًا أصيب بالعمى بعد وقت قصير من ولادة ديمتري، مما ترك العائلة في ظروف صعبة. أما والدته، ماريا دميترييفنا كورنيلفا، فكانت تنحدر من عائلة من التجار وعقدت العزم على توفير التعليم لأطفالها رغم الصعوبات.
ضربت المأساة حياة مندليف مبكرًا عندما توفي والده بمرض السل عام 1847. ولإعالة العائلة، تولت والدته إدارة مصنع زجاج تملكه عائلتها. لكن عندما احترق المصنع عام 1848، اتخذت قرارًا جريئًا بالانتقال إلى موسكو على أمل أن يحصل ابنها الموهوب على تعليم جامعي. لسوء الحظ، رفضت جامعة موسكو قبول ديمتري بسبب أصوله السيبيرية. غير أن ماريا لم تستسلم، فاصطحبته إلى سانت بطرسبرغ، حيث قُبِل في المعهد التربوي الرئيسي عام 1850.
كانت تضحيات ماريا جسيمة—فقد توفيت بعد وقت قصير من حصوله على القبول، تاركة مندليف يتيمًا في سن السادسة عشرة فقط. ورغم هذه الخسارة الفادحة، تفوق في دراسته، وأظهر قدرات استثنائية في الرياضيات والفيزياء والكيمياء. بعد تخرجه عام 1855، عمل مدرسًا بينما واصل أبحاثه العلمية، وحصل في النهاية على درجة الماجستير في الكيمياء عام 1856.
المسيرة العلمية والإسهامات المبكرة

ركز عمل مندليف المبكر على خصائص الغازات والسوائل، لكن اهتماماته توسعت لاحقًا لدراسة الطبيعة الأساسية للعناصر الكيميائية. في عام 1859، حصل على منحة حكومية للدراسة في الخارج، فقضى بعض الوقت في هايدلبرغ بألمانيا، حيث عمل مع علماء بارزين مثل روبرت بنزن وجوستاف كيرشوف. هناك، أجرى تجارب حول التمدد الحراري للسوائل وطبيعة الروابط الكيميائية.
عندما عاد إلى روسيا عام 1861، أصبح مندليف أستاذًا في معهد سانت بطرسبرغ التكنولوجي، ثم في جامعة سانت بطرسبرغ لاحقًا. اشتهرت محاضراته بوضوحها وعمقها، وسرعان ما اكتسب سمعة كمدرس بارع. خلال هذه الفترة، بدأ أيضًا في تأليف كتابه الرائد مبادئ الكيمياء (1868–1870)، الذي سعى إلى تنظيم المعرفة الكيميائية بشكل منهجي. وكان يعمل على هذا الكتاب عندما توصل إلى أشهر اكتشافاته.
قدوم الجدول الدوري

بحلول ستينيات القرن التاسع عشر، كان الكيميائيون قد حددوا حوالي 60 عنصرًا، لكن لم يكن هناك مبدأ واضح لتنظيم خصائصها. حاول عدة علماء، منهم جون نيولاندز ولوتار ماير، تصنيف العناصر بناءً على الأوزان الذرية، لكن أنظمتهم كانت ناقصة. أما مندليف، فقد اتبع منهجًا مختلفًا.
في عام 1869، وبعد سنوات من الدراسة الدقيقة، رتب العناصر المعروفة حسب زيادة الوزن الذري ولاحظ أن خصائصها تتكرر على فترات منتظمة—وهي ظاهرة أطلق عليها اسم الدورية. ثم نظمها في جدول، حيث جمع العناصر المتشابهة في خصائصها في أعمدة رأسية (مجموعات) وصفوف أفقية (دورات). ما ميز جدول مندليف هو قراره الجريء بترك فراغات لعناصر لم تُكتشف بعد، وتنبؤه بخصائصها بدقة مذهلة.
على سبيل المثال، ترك أماكن لما أسماه إيكا-ألومنيوم، وإيكا-بورون، وإيكا-سيليكون—والتي تم اكتشافها لاحقًا وعُرفت باسم الغاليوم، والسكانديوم، والجرمانيوم على التوالي. عندما اكتُشفت هذه العناصر في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر، تطابقت خصائصها تمامًا مع توقعات مندليف، مما عزز مصداقية قانونه الدوري.
الخاتمة: تأثير دائم
لم يكن جدول مندليف (ديمتري مندليف) الدوري مجرد نظام تصنيف—بل كان خريطة طريق للاكتشافات المستقبلية. وضع عمله أساس الكيمياء الحديثة، وأثر في كل شيء بدءًا من النظرية الذرية وحتى تطوير مواد جديدة. واليوم، يُعد الجدول الدوري أداة لا غنى عنها للعلماء في جميع أنحاء العالم، وهو شهادة على عبقرية مندليف.
تبقى قصته—المليئة بالصمود والجرأة الفكرية والالتزام الثابت بالعلم—مصدر إلهام. من ظروف سيبيريا القاسية إلى قاعات الأكاديميات، تعكس رحلة مندليف قوة الفضول والتأثير الدائم لرؤية رجل واحد على العالم.
اقرا ايضا قصة السفاح إد جين: جزار بلينفيلد