في سجلات التاريخ، قلما نجد شخصية تجسد العبقرية الفكرية والمصير المأساوي مثل هيباتيا الإسكندرانية. كانت عالمة رياضيات وفلك وفيلسوفة، وقفت كمنارة للمعرفة في عصر كان العالم القديم ينهار فيه تحت وطأة الاضطرابات السياسية والدينية. حياتها، وإسهاماتها في العلم والفلسفة، وقتلها الوحشي على يد حشد مسيحي، جعل منها رمزًا للعقلانية في مواجهة التعصب.
تتكشف قصة هيباتيا في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الميلادي في الإسكندرية، المدينة التي كانت يومًا أعظم مركز للتعلم في العالم، لكنها كانت تترنح في ذلك الوقت في بحر من الفوضى. كآخر رئيسة للمدرسة الأفلاطونية الحديثة في الإسكندرية، مثلت هيباتيا آخر شعلة من شعلات العلم الكلاسيكي قبل أن تغرق أوروبا في العصور المظلمة. لم يكن موتها مجرد نهاية لحياة فرد، بل نهاية لعصر بأكمله — آخر أنفاس الفكر الوثني قبل صعود الهيمنة الدينية المتشددة.
ستستعرض هذه المقالة حياة هيباتيا، وإنجازاتها العلمية، والاضطرابات السياسية والدينية في عصرها، والظروف المروعة لموتها. كما سنتناول إرثها وكيف تم تذكرها — وغالبًا ما تم تشويه سيرتها — عبر القرون.
حياة هيباتيا المبكرة وتعليمها

وُلدت هيباتيا حوالي عام 355 ميلادي في الإسكندرية بمصر، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية. كان والدها، ثيون الإسكندراني، عالم رياضيات وفلك شهيرًا، وكان آخر عضو مسجل في متحف الإسكندرية، المؤسسة التي كانت يومًا قمة المعرفة القديمة. حرص ثيون على أن تحصل ابنته على تعليم يتجاوز بكثير ما كان متاحًا لمعظم النساء في عصرها.
منذ صغرها، أظهرت هيباتيا موهبة استثنائية في الرياضيات والفلسفة. درست تحت إشراف والدها، وأتقنت الهندسة وعلم الفلك وأعمال المفكرين الكلاسيكيين مثل إقليدس وبطليموس وأفلاطون. على عكس معظم نساء عصرها، اللواتي حُصرن في الأدوار المنزلية، انغمست هيباتيا في السعي الفكري، وتجاوزت في النهاية حتى سمعة والدها.
سافرت إلى أثينا وربما إلى مراكز علمية أخرى لإكمال دراستها، وهي امتياز نادر للمرأة في العالم القديم. وعندما عادت إلى الإسكندرية، أصبحت واحدة من أكثر الشخصيات علمًا في المدينة.
هيباتيا كمعلمة وفيلسوفة

بعد عودتها إلى الإسكندرية، تولت هيباتيا منصب والدها في المدرسة الأفلاطونية الحديثة، وأصبحت رئيسة لها حوالي عام 400 ميلادي. كانت الأفلاطونية الحديثة، النظام الفلسفي الذي سعى للتوفيق بين أفكار أفلاطون والتصوف الديني، أحد التيارات الفكرية الرئيسية في أواخر العصور القديمة. اجتذبت محاضرات هيباتيا طلابًا من جميع أنحاء البحر المتوسط، من الوثنيين والمسيحيين على حد سواء، الذين جاءوا ليدرسوا الرياضيات والفلك والفلسفة تحت إشرافها.
من بين أشهر تلاميذها سينيسيوس القوريني، الذي أصبح لاحقًا أسقفًا مسيحيًا. تكشف رسائله الباقية إلى هيباتيا عن الاحترام العميق الذي يكنه لها، حيث يخاطبها بـ “الأم، والأخت، والمعلمة”. توفر هذه الرسائل أيضًا بعضًا من أكثر الروايات تفصيلاً عن تعاليمها، مما يظهر تأثيرها على الفكر الأفلاطوني الحديث.
لم تشتهر هيباتيا بذكائها فحسب، بل ببلاغتها وأخلاقها العالية. على عكس العديد من الفلاسفة في عصرها، لم تنعزل في الزهد بل شاركت بنشاط في الحياة المدنية. كانت تسير في شوارع الإسكندرية مرتدية عباءة الفيلسوف التقليدية (التريبون)، وتلقي محاضرات علنية وتقدم النصح لشخصيات بارزة في المدينة.
الإسهامات العلمية والفلسفية

رغم أن أيًا من كتابات هيباتيا الأصلية لم ينجو سليمًا، إلا أن السجلات التاريخية وأعمال تلاميذها تشير إلى أنها قدمت إسهامات كبيرة في الرياضيات والفلك. تعاونت مع والدها في كتابة شروح على كتاب “المجسطي” لبطليموس وكتاب “الأصول” لإقليدس، وهما نصان أساسيان في مجاليهما. يعتقد بعض الباحثين أنها ربما قامت أيضًا بتحرير كتاب “الحساب” لديوفانتوس، وهو عمل رئيسي في الجبر المبكر.
في علم الفلك، يُنسب إلى هيباتيا تحسين تصميم الأسطرلاب، وهي أداة كانت تستخدم في الملاحة ومراقبة النجوم. ويذكر سينيسيوس مساعدتها في صنع “الهيدروسكوب”، وهو جهاز ربما كان يُستخدم لقياس كثافة السوائل.
فلسفيًا، التزمت هيباتيا بتقاليد الأفلاطونية الحديثة، مؤكدة على البحث العقلاني والسعي إلى الحقيقة الإلهية عبر الوسائل الفكرية. على عكس الأفلاطونيين المحدثين اللاحقين الذين اعتنقوا التصوف، حافظت على نهج أكثر علمية، متوافقة مع التقاليد اليونانية الكلاسيكية لأفلاطون وأرسطو.
الصراع مع كيرلس والكنيسة

أصبح كيرلس، الذي تولى منصب البطريرك عام 412 ميلادي، زعيمًا طموحًا ومتطرفًا. سعى إلى تعزيز السلطة المسيحية في الإسكندرية، مما أدى إلى اصطدامه مع أوريستيس، الذي مثل الحكومة الإمبراطورية. أصبحت هيباتيا، كمستشارة مقربة من أوريستيس، هدفًا لعداء كيرلس.
نشر أتباع كيرلس شائعات بأن هيباتيا ساحرة تستخدم السحر للتأثير على أوريستيس ومعارضة الكنيسة. في المناخ المتوتر للإسكندرية، كانت مثل هذه الاتهامات قاتلة. أدى تصاعد العقلية الجماهيرية، التي تغذيها التعصب الديني، إلى تهيئة المسرح للمأساة.
القتل الوحشي لهيباتيا

في مارس عام 415 ميلادي، خلال الصوم الكبير، قام حشد من المتعصبين المسيحيين بقيادة قارئ كنيسة يُدعى بطرس بكمين لهيباتيا بينما كانت تسير في المدينة. جرّوها من عربتها إلى الكيساريوم، وهو معبد وثني سابق تم تحويله إلى كنيسة. هناك، عرّوها من ملابسها وقتلوها بقطع من الفخار المكسور (أوستراكون)، حيث سلخوا جلدها عن عظامها. ثم أحرقوا جثتها ودُمّرت مدرستها.
أثار القتل صدمة في الإمبراطورية. رغم عدم اتهام كيرلس مباشرة، إلا أن مؤرخين مثل سقراط السكولاستيكي يشيرون إلى أن خطاباته هي التي حرضت الحشد. بينما عجز أوريستيس عن وقف العنف، وسرعان ما غادر الإسكندرية. نمت سلطة كيرلس دون رادع، مما مثل انتصارًا للسلطة الدينية على الحرية الفكرية والعلمانية.
الخاتمة
تبقى حياة هيباتيا وموتها فصلًا مؤثرًا في التاريخ. فذكاؤها كعالمة، وشجاعتها كامرأة في عالم يهيمن عليه الرجال، ونهايتها المأساوية على أيدي المتعصبين، جعلت قصتها لا تُنسى. لم تكن مجرد ضحية، بل كانت رمزًا — لما فُقد عندما طغت الإيمان على العقل، ولما يجب أن يسعى البشر لاستعادته: حرية التفكير، والتساؤل، والتعلم دون خوف.
رغم أن أعمالها أُحرقت واسمها كاد يُنسى، إلا أن هيباتيا تبقى منارةً للصمود الفكري. بتذكرها، نحتفي ليس فقط بحياة امرأة واحدة، بل بالروح الخالدة للفضول التي تُعرِّف التقدم البشري.