غالبًا ما يُذكر اسم روزاليند فرانكلين كهامش في تاريخ العلم، حيث طغت عليه شخصيات جيمس واتسون وفرانسيس كريك، اللذين نالا التكريم كمكتشفي البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي. ومع ذلك، لولا أبحاث فرانكلين الرائدة، لما تحقق هذا الإنجاز العلمي العظيم. قصتها هي قصة ذكاء استثنائي ومثابرة، ولكنها أيضًا قصة تهميش مؤسف. وُلدت في عالم كان يُضعِف مكانة المرأة في العلوم، ولم تُنَلَ حقها الكامل إلا بعد وفاتها. هذه هي قصة كيف أسهم بحثها الدقيق وعقلها الثاقف في وضع حجر الأساس لأعظم الاكتشافات العلمية في القرن العشرين، وكيف فشل التاريخ في البداية في منحها التقدير الذي تستحقه.
النشأة والتعليم

وُلدت روزاليند إلسي فرانكلين في 25 يوليو 1920 في لندن، لعائلة يهودية ثرية ومؤثرة. كان والدها، إليس فرانكلين، مصرفيًا تجاريًا، وكانت عائلتها منخرطة في العمل الاجتماعي والإصلاح التعليمي. أظهرت روزاليند موهبة استثنائية في العلوم والرياضيات منذ صغرها. التحقت بمدرسة سانت بول للبنات، وهي واحدة من المؤسسات القليلة التي كانت تدرّس الفيزياء والكيمياء للفتيات في ذلك الوقت، وتميزت في دراستها.
في سن الثامنة عشرة، التحقت بكلية نيونهام في كامبريدج، حيث درست الكيمياء. على الرغم من تردد الجامعة في منح النساء مكانة كاملة (إذ لم تكن كامبريدج تمنح النساء شهادات حتى عام 1948)، تخرجت فرانكلين عام 1941 بدرجات امتياز. ركزت أبحاثها خلال هذه الفترة على مسامية الفحم، وهو موضوع أثبت لاحقًا فائدته في عملها على هياكل الكربون. ومع ذلك، واجهت العديد من العقبات، إذ كان المجتمع العلمي لا يزال يهيمن عليه الذكور، وكانت النساء كثيرًا ما يُثنَين عن متابعة المسارات الأكاديمية الجادة.
بداية مسيرتها المهنية والأبحاث في باريس

بعد كامبريدج، عملت فرانكلين لفترة قصيرة في “رابطة أبحاث استخدام الفحم البريطانية”، حيث ساهمت دراساتها حول الفحم والجرافيت في تحسين أقنعة الغاز خلال الحرب العالمية الثانية. في عام 1947، انتقلت إلى باريس للعمل في “المختبر المركزي للخدمات الكيميائية الحكومية”، وهناك تعلّمت تقنية حيود الأشعة السينية (X-ray crystallography)، التي أصبحت لاحقًا أساسية في أبحاثها حول الحمض النووي. تحت إشراف جاك ميرينج، صقلت فرانكلين مهاراتها في استخدام الأشعة السينية لدراسة البنية الذرية للمواد.
كانت فترة وجودها في باريس تحولية. أصبحت خبيرة في علم البلورات، ونشرت أوراقًا بحثية مؤثرة حول بنية الفحم والجرافيت. على عكس العديد من زملائها البريطانيين، ازدهرت في المجتمع العلمي الفرنسي الأكثر مساواة، حيث حظي عملها بالتقدير بغض النظر عن جنسها. ومع ذلك، في عام 1950، عادت إلى إنجلترا، وقبلت منصبًا في كلية كينجز كوليدج لندن — قرارٌ وضعها في قلب أحد أعظم الاكتشافات العلمية، ولكنه أيضًا جعلها في صراع مرير.
سباق اكتشاف الحمض النووي في كينجز كوليدج

عندما انضمت فرانكلين إلى كلية كينجز عام 1951، كُلّفت بدراسة بنية الحمض النووي، وهو جزيء كان العلماء يبدأون فقط في فهم أهميته في الوراثة. كان موريس ويلكنز، عالم آخر في الكلية، يدرس الحمض النووي باستخدام حيود الأشعة السينية أيضًا. لكن بسبب سوء فهم (وربما افتراض ويلكنز أن فرانكلين كانت مساعدته وليس باحثة مستقلة)، أصبحت علاقتهما متوترة بسرعة.
اتبعت فرانكلين منهجًا دقيقًا ومنضبطًا في عملها. حسّنت معدات الأشعة السينية، وضبطت الرطوبة بعناية لإنتاج صور أوضح لألياف الحمض النووي. الصورة الشهيرة “Photo 51″، التي التقطتها في مايو 1952، كشفت عن نمط متقاطع مميز — دليل واضح على بنية حلزونية. هذه الصورة، إلى جانب قياساتها التفصيلية، قدمت بيانات حاسمة استُخدمت لاحقًا لفك شفرة البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي.
في الوقت نفسه، كان واتسون وكريك في كامبريدج يسعيان أيضًا لحل لغز بنية الحمض النووي. على عكس فرانكلين، كانا يعتمدان على النمذجة النظرية بدلاً من البيانات التجريبية. كانت محاولاتهما الأولى خاطئة، حتى أنهم تلقوا أمرًا بالتوقف مؤقتًا عن العمل. لكن في يناير 1953، عرض ويلكنز — دون علم فرانكلين أو موافقتها — صورة “Photo 51” على واتسون. كانت الصورة بمثابة اكتشاف مذهل. جنبًا إلى جنب مع بيانات من أحد تقارير فرانكلين غير المنشورة (التي تم مشاركتها مع كريك دون إذنها)، استطاع واتسون وكريك أخيرًا تركيب البنية الصحيحة.
البنية الحلزونية المزدوجة وإقصاء فرانكلين

في 25 أبريل 1953، نشر واتسون وكريك ورقتهما البحثية التاريخية في مجلة “Nature”، حيث اكتفيا بذكر مساهمة فرانكلين بشكل عابر. بينما نُشرت ورقتها البحثية حول بنية الحمض النووي في نفس العدد، عُرضت كدليل داعم وليس كعمل رائد كما كان يجب. انتقلت فرانكلين، غير مدركة لمدى تأثير بياناتها على واتسون وكريك، إلى أبحاث أخرى.
لم يكن التجاهل شخصيًا فحسب، بل كان مؤسسيًا. في كينجز كوليدج، واجهت فرانكلين بيئة عمل عدائية. لم يكن يُسمح للنساء بدخول غرفة الأساتذة، وكانت غالبًا ما تُستبعد من المناقشات العلمية غير الرسمية. محبطة، غادرت في عام 1953 إلى كلية بيركبيك، حيث ركزت على دراسة بنية الفيروسات، وساهمت في فهم فيروس تبرقش التبغ وشلل الأطفال.
الخاتمة
قصة روزاليند فرانكلين ليست مجرد قصة عبقرية علمية، بل هي درس في كيف يمكن للتحيز والتمييز المؤسسي أن يحجبا الحقيقة. قدم عملها الدقيق المفتاح لفهم الشفرة الأساسية للحياة، ومع ذلك حُرمت من التقدير الذي تستحقه في حياتها. اليوم، لا يزال إرثها حيًا، ليس فقط في التقدم العلمي المبني على أبحاثها، بل أيضًا في النضال المستمر من أجل الإنصاف في العلوم. تظل رمزًا للمثابرة والدقة الفكرية، ومساهمات النساء المهمشة في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM).
اقرا ايضا شركة إيكيا و قصة نجاحها بجميع تفاصيلها