تُعتبر جين جودال واحدة من أكثر العلماء تأثيرًا في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وهي المرأة التي أعادت أبحاثها الرائدة مع الشمبانزي تعريف فهمنا للرئيسيات وذكاء الحيوانات وجهود الحفاظ على البيئة. قصتها ليست مجرد سرد لاكتشافات علمية، بل هي أيضًا قصة شغفٍ لا ينضب، ومثابرة، وارتباط عميق بالعالم الطبيعي. من أيامها الأولى كفتاة فضولية في إنجلترا إلى تحولها إلى أيقونة عالمية في الحفاظ على البيئة، رحلة جودال مليئة بلحظات النجاح والتحدي والبصائر العميقة.
مقابلة لويس ليكي: نقطة التحول

في عام 1957، وعمرها 23 عامًا، سافرت جين أخيرًا إلى كينيا لزيارة مزرعة صديقة. أثناء وجودها هناك، رتّبت مقابلة مع عالم الحفريات الشهير الدكتور لويس ليكي، الذي كان يعمل آنذاك في متحف كوريوندون (المعروف الآن بالمتحف الوطني في نيروبي). أعجب ليكي بحماس جين ومعرفتها بالحياة البرية الأفريقية، رغم افتقارها للتدريب العلمي الرسمي. كان يعتقد أن دراسة القردة العليا قد تكشف عن رؤى حول السلوك البشري المبكر، ورأى في جين المرشحة المثالية—شخصًا يتمتع بالصبر والعزيمة وعقل منفتح.
قام ليكي بتوظيفها كمساعدة، وبعد فترة قصيرة، اقترح عليها مشروعًا طموحًا: دراسة طويلة الأمد للشمبانزي البري في ما يُعرف الآن بحديقة جومبي ستريم الوطنية في تنزانيا. في ذلك الوقت، كان مجال دراسة الرئيسيات يهيمن عليه الذكور، وكان قليلون يعتقدون أن امرأة غير مدربة ستنجح في مثل هذه البيئة الصعبة. لكن ليكي وثق بغريزة جين، وبتمويل من مؤسسة ويلكي براذرز، انطلقت إلى جومبي في عام 1960.
جومبي والاكتشافات الرائدة

وصلت جين إلى جومبي في يوليو 1960، برفقة أمها (حيث اشترطت السلطات التنزانية وجود مرافق) وطباخ. كانت الأيام الأولى شاقة. كانت الشمبانزي تهرب عند رؤيتها، وقضت شهورًا تتبعها بصبر عبر الغابات الكثيفة، متحملة الحر والحشرات والعزلة. لكن مثابرتها آتت أكلها.
جاء أحد أول اكتشافاتها الكبرى عندما لاحظت شمبانزي أسمته “ديفيد جرايبرد” يستخدم غصينًا لاستخراج النمل الأبيض من كومة—وهو مثال واضح على استخدام الأدوات. حتى ذلك الحين، كان العلماء يعتقدون أن البشر فقط هم من يصنعون ويستخدمون الأدوات. عندما أبلغت ليكي بهذا الاكتشاف، قال لها كلمته الشهيرة: “الآن يجب علينا إما إعادة تعريف الأداة، أو إعادة تعريف الإنسان، أو قبول الشمبانزي كبشر.” أجبر هذا الاكتشاف المجتمع العلمي على إعادة النظر في القدرات المعرفية للحيوانات.
مع مرور الوقت، كشفت ملاحظات جين الحميمية سلوكيات أكثر إذهالًا. وثّقت الشمبانزي وهي تصطاد وتأكل اللحوم (خلافًا للاعتقاد السائد بأنها نباتية فقط)، وتشارك في تسلسلات هرمية اجتماعية معقدة، وحتى تظهر مشاعر مثل الحزن والعاطفة. أعطت الشمبانزي أسماء بدلًا من أرقام، وهو ممارسة انتقدها العلماء التقليديون الذين اعتقدوا أنها تخل بالموضوعية. لكن منهج جين التعاطفي سمح لها برؤيتهم كأفراد ذوي شخصيات مميزة—وهو مفهوم ثوري في ذلك الوقت.
التحديات والجدل

لم تكن أبحاث جين بمنأى عن الانتقادات. رفض بعض العلماء اكتشافاتها لأنها تفتقر إلى شهادة أكاديمية رسمية، بينما جادل آخرون أن تفاعلها القريب مع الشمبانزي أثر على موضوعية بحثها. لكنها لم تتراجع، وعادت إلى إنجلترا في عام 1962 للحصول على درجة الدكتوراه في علم السلوك الحيواني من جامعة كامبريدج—حيث كانت واحدة من القلائل الذين تم قبولهم دون الحصول على درجة البكالوريوس أولاً. أكّدت أطروحتها، المستندة إلى أبحاثها في جومبي، مكانتها في المجتمع العلمي.
في جومبي، وقعت مأساة في السبعينيات عندما أدى تفشي شلل الأطفال وحروب بين مجموعات الشمبانزي إلى وفيات داخل المجموعة التي درستها لسنوات. عززت هذه الأحداث فهمها لسلوك الشمبانزي، لكنها مثلت أيضًا نقطة تحول في مسيرتها. أدركت أنه لحماية هذه الحيوانات، عليها أن تنظر إلى ما هو أبعد من البحث العلمي وتعالج التهديدات الأكبر التي تواجهها: تدمير الموائل، الصيد الجائر، وتجارة الحيوانات غير المشروعة.
جين جودال: من عالمة إلى ناشطة

بحلول الثمانينيات، تحولت جين من البحث العلمي المحض إلى الدعوة العالمية. بعد حضورها مؤتمرًا عن دراسة الرئيسيات في عام 1986، حيث علمت عن التدمير الواسع للغابات وانخفاض أعداد الشمبانزي في جميع أنحاء أفريقيا، اقتنعت أن العلماء لم يعودوا قادرين على البقاء مجرد مراقبين سلبيين. أسست معهد جين جودال (JGI) في عام 1977، الذي وسّع مهمته من البحث إلى الحفاظ على البيئة، التعليم، وتنمية المجتمع.
إحدى مبادراتها الأكثر تأثيرًا كانت برنامج TACARE (Take Care)، الذي عمل مع المجتمعات المحلية بالقرب من جومبي لتعزيز الزراعة المستدامة، إعادة التحريج، والتعليم، مما أثبت أن جهود الحفاظ على البيئة لا يمكن أن تنجح دون معالجة احتياجات البشر. كما أطلقت برنامج Roots & Shoots (جذور وبراعم) في عام 1991، وهو برنامج بيئي يقوده الشباب وينشط الآن في أكثر من 100 دولة، لتمكين الشباب من اتخاذ إجراءات في مجتمعاتهم.
الخاتمة
قصة جين جودال هي شهادة على قوة الفضول، الشجاعة، والرحمة. من طفلة تراقب الدجاج إلى أيقونة عالمية تناضل من أجل الكوكب، تذكرنا رحلتها أن تفاني شخص واحد يمكن أن يُحدث فرقًا حقًا. كان عملها مع الشمبانزي مجرد البداية؛ أما إرثها الحقيقي فيكمن في ملايين الأرواح التي أثرت فيها والأمل الدائم الذي تقدمه من أجل مستقبل أكثر استدامة.
اقرا ايضا قصة العالمة روزاليند فرانكلين: الرائدة في اكتشاف الحمض النووي