تُعدّ قصة تأسيس حزب الله اللبناني واحدة من أبرز الأحداث التي شهدها العالم العربي في العقود الأخيرة، حيث يمثل الحزب اليوم أحد أبرز القوى السياسية والعسكرية في لبنان، وله تأثير واسع على المستوى الإقليمي والدولي. ظهرت فكرة تأسيس الحزب في سياق معقد من الأحداث التاريخية والسياسية والاجتماعية التي مرت بها المنطقة، خاصةً في ظل الأوضاع المضطربة التي عاشها لبنان في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين. هذه المقالة تقدم عرضًا مفصلًا لهذه القصة بدءًا من الخلفيات التاريخية وصولًا إلى تأسيس الحزب ونموه.
الخلفية التاريخية والسياسية لتأسيس حزب الله
قبل تأسيس حزب الله، كان لبنان يعاني من حالة عدم استقرار سياسي وأمني عميقة. خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، انقسمت البلاد إلى عدة معسكرات سياسية وطائفية متصارعة. إلى جانب ذلك، شكّل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 نقطة تحول حاسمة، حيث زادت حدة الصراع الداخلي وظهرت الحاجة إلى قوة محلية تستطيع مقاومة الاحتلال.
كان الجنوب اللبناني، الذي يشكل معقلًا رئيسيًا للطائفة الشيعية، أكثر المناطق تضررًا من الاجتياح الإسرائيلي. سكان هذه المنطقة، الذين عانوا من التهميش الاقتصادي والاجتماعي لعقود، وجدوا أنفسهم في مواجهة مباشرة مع آلة الحرب الإسرائيلية. تزامن هذا الوضع مع بروز الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، والتي قدمت دعمًا أيديولوجيًا وماديًا للحركات الإسلامية الشيعية في المنطقة، بما في ذلك لبنان.
الأسس الفكرية والإيديولوجية لحزب الله
تأثر حزب الله منذ نشأته بالفكر الثوري الذي نشره الإمام الخميني، قائد الثورة الإيرانية. حمل الحزب فكرة “ولاية الفقيه” كركيزة أساسية لأيديولوجيته، والتي تعني أن القيادة السياسية والدينية للمسلمين يجب أن تكون تحت إشراف فقيه إسلامي. بالنسبة لحزب الله، كان الإمام الخميني هو القائد الشرعي في ذلك الوقت، واستمرت العلاقة القوية بين الحزب والقيادة الإيرانية لاحقًا.
إلى جانب الأيديولوجية الإسلامية الشيعية، كان لحزب الله أهداف واضحة منذ تأسيسه. تمثلت هذه الأهداف في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للبنان، والعمل على تحرير القدس، وتعزيز الدور السياسي للطائفة الشيعية في لبنان. كان الحزب أيضًا يسعى إلى بناء مجتمع إسلامي قائم على مبادئ العدالة الاجتماعية والقيم الدينية.
التأسيس الرسمي لحزب الله
بدأت فكرة تأسيس حزب الله تتبلور في أوائل الثمانينيات من خلال مجموعة من رجال الدين الشيعة والنشطاء السياسيين في لبنان. كان هؤلاء الأفراد يتمتعون بعلاقات قوية مع الحرس الثوري الإيراني، الذي كان قد وصل إلى لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي. عمل الحرس الثوري على تدريب وتسليح المجموعات اللبنانية التي تعهدت بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكان هذا الدعم الإيراني أساسًا حاسمًا في ولادة الحزب.
في عام 1982، بدأت المجموعة الأساسية التي شكلت لاحقًا حزب الله بإنشاء قواعد عسكرية وتنظيمية في مناطق البقاع والجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية لبيروت. كان هذا العمل يتم بسرية تامة لتجنب الكشف عنه من قبل القوات الإسرائيلية أو الميليشيات اللبنانية المتحالفة معها.
في فبراير 1985، أصدر حزب الله أول بيان رسمي له، عُرف باسم “الرسالة المفتوحة”، والتي أعلن فيها عن نفسه كحركة مقاومة إسلامية تهدف إلى تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة وطرد القوات الإسرائيلية. كما دعا البيان إلى القضاء على النفوذ الغربي في لبنان وإقامة نظام إسلامي في البلاد.
الدعم الإيراني ودوره في تعزيز قوة الحزب
منذ بداية تأسيسه، اعتمد حزب الله بشكل كبير على الدعم الإيراني. قدّمت إيران للحزب تمويلًا ماليًا ضخمًا، بالإضافة إلى توفير التدريب العسكري والمشورة الاستراتيجية. كان الحرس الثوري الإيراني يلعب دورًا محوريًا في بناء القدرات العسكرية لحزب الله، من خلال إنشاء معسكرات تدريب في لبنان وسوريا، وتزويد الحزب بأسلحة متطورة.
هذا الدعم الإيراني لم يكن مجرد مساعدة لوجستية، بل كان أيضًا دعمًا أيديولوجيًا وثقافيًا. أصبح حزب الله نموذجًا للتأثير الإيراني في المنطقة، وهو ما أثار مخاوف العديد من الدول الإقليمية والدولية التي اعتبرت الحزب أداة لتنفيذ السياسة الإيرانية في لبنان والشرق الأوسط.
الدور العسكري في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي
لعب حزب الله دورًا رئيسيًا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وهو الدور الذي أكسبه شهرة واسعة في العالمين العربي والإسلامي. بدأت العمليات العسكرية للحزب ضد القوات الإسرائيلية والميليشيات المتحالفة معها في أوائل الثمانينيات. كان الحزب يعتمد في هذه العمليات على تكتيكات حرب العصابات، بما في ذلك الكمائن وزرع العبوات الناسفة وشن الهجمات على المواقع العسكرية الإسرائيلية.
في عام 2000، وبعد سنوات من المقاومة المستمرة، انسحبت القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، وهو ما اعتُبر انتصارًا كبيرًا لحزب الله. استغل الحزب هذا الإنجاز لتعزيز مكانته السياسية والعسكرية في لبنان، حيث أصبح يُنظر إليه كقوة وطنية قادرة على تحقيق أهدافها من خلال الكفاح المسلح.
الدور السياسي والاجتماعي لحزب الله
بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، بدأ حزب الله يركز على تعزيز دوره السياسي والاجتماعي. دخل الحزب الحياة السياسية اللبنانية بشكل رسمي من خلال الانتخابات البرلمانية، حيث حصل على مقاعد في البرلمان وأصبح جزءًا من الحكومات المتعاقبة.
إلى جانب ذلك، عمل حزب الله على تقديم خدمات اجتماعية واسعة في المناطق التي يسيطر عليها، بما في ذلك بناء المدارس والمستشفيات وتوفير المساعدات المالية للفقراء. ساعدت هذه الخدمات الحزب في كسب تأييد واسع بين أوساط الطائفة الشيعية وبعض المكونات الأخرى في لبنان.
العلاقات الدولية والإقليمية
كانت علاقات حزب الله مع الدول الأخرى دائمًا محل جدل. بالإضافة إلى دعمه القوي من إيران، كان للحزب علاقات وثيقة مع النظام السوري الذي اعتبره حليفًا استراتيجيًا. في المقابل، واجه الحزب انتقادات واتهامات من دول غربية وعربية تتهمه بالتدخل في شؤون دول أخرى ودعم الإرهاب.
تصاعدت هذه التوترات بعد تورط حزب الله في الحرب السورية منذ عام 2012، حيث أرسل مقاتليه لدعم نظام الرئيس بشار الأسد. أثار هذا التدخل ردود فعل متباينة، حيث رآه البعض تعزيزًا لدور الحزب الإقليمي، بينما اعتبره آخرون انحرافًا عن أهداف المقاومة.
التحديات والمستقبل
رغم نجاحاته العسكرية والسياسية، يواجه حزب الله تحديات كبيرة في الوقت الحالي. التدهور الاقتصادي في لبنان، والتوترات الداخلية بين الطوائف، والضغوط الدولية على إيران، كلها عوامل تؤثر على الحزب. بالإضافة إلى ذلك، يتعرض الحزب لضغوط من المجتمع الدولي الذي يطالب بنزع سلاحه ودمجه في الدولة اللبنانية.
تمثل قصة تأسيس حزب الله انعكاسًا لتاريخ لبنان الحديث، بكل تعقيداته وتناقضاته. من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إلى التدخل في النزاعات الإقليمية، أثبت الحزب قدرته على التكيف مع التحديات والظروف المتغيرة. ومع ذلك، يبقى مستقبله موضوعًا مفتوحًا للنقاش في ظل الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان والمنطقة بأسرها.