بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت اليابان واحدة من أكثر الدول المثيرة للاهتمام من الناحية السياسية والعسكرية بسبب وضعها الفريد: دولة متقدمة اقتصاديًا وصناعيًا ولكنها تفتقر إلى جيش بالمعنى التقليدي. لفهم السبب الذي جعل اليابان تتخذ هذا المسار الاستثنائي، يجب أن نغوص في تاريخها الحديث، والظروف المحيطة بنهايات الحرب العالمية الثانية، والدستور الياباني الذي تم صياغته بعد الحرب، بالإضافة إلى التحولات السياسية والأمنية في العقود التالية.
الجذور التاريخية لنزع السلاح الياباني
تبدأ القصة مع نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، عندما عانت اليابان من هزيمة ساحقة على يد الحلفاء، وخاصة الولايات المتحدة. خلال الحرب، كانت واحدة من أكثر القوى العسكرية عدوانية في العالم. توسعت إمبراطوريتها بسرعة في آسيا والمحيط الهادئ، وغزت أجزاء كبيرة من الصين وكوريا وجنوب شرق آسيا. هذا التوسع كان مدعومًا بجيش إمبراطوري قوي ومخلص، لكنه جاء بتكلفة باهظة للبشرية.
بحلول عام 1945، أصبحت اليابان في حالة يرثى لها. دُمرت العديد من مدنها بالكامل بسبب القصف الجوي، بما في ذلك الهجمات النووية على هيروشيما وناغازاكي. كانت البنية التحتية الاقتصادية مدمرة، والشعب يعاني من الجوع والفقر، بينما كان الجيش الياباني شبه منهار. هذه الظروف أجبرت اليابان على الاستسلام غير المشروط للحلفاء في أغسطس 1945.
دور الاحتلال الأمريكي
بعد استسلام اليابان، بدأت الولايات المتحدة باحتلالها وفرض تغييرات جذرية على البلاد. قاد الجنرال دوغلاس ماك آرثر، القائد الأعلى لقوات الحلفاء في المحيط الهادئ، جهود إعادة بناء اليابان. كانت واحدة من أولويات الاحتلال هي ضمان أن اليابان لن تكون قادرة على العودة إلى مسار العدوان العسكري في المستقبل.
لهذا السبب، ضغطت الولايات المتحدة على اليابان لصياغة دستور جديد يتضمن فقرة واضحة تحظر على اليابان الاحتفاظ بجيش أو استخدام الحرب كوسيلة لحل النزاعات الدولية. تم الانتهاء من هذا الدستور في عام 1947 وأصبح يعرف باسم “دستور السلام”، ويعتبر المادة 9 منه الأساس القانوني لعدم وجود جيش ياباني تقليدي.
المادة 9 من الدستور الياباني
تعد المادة 9 من الدستور الياباني من أكثر النصوص القانونية شهرة في العالم. تنص هذه المادة على ما يلي:
“يتخلى الشعب الياباني إلى الأبد عن الحرب كحق سيادي للأمة وعن استخدام القوة كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية. لن تُحافظ اليابان على قوات عسكرية أو وسائل حرب أخرى.”
هذه الفقرة وضعت قيودًا صارمة على قدرة اليابان على بناء جيش أو حتى خوض حروب دفاعية. لكنها لم تكن مجرد نص قانوني، بل كانت تعبيرًا عن رغبة اليابانيين في الابتعاد عن العسكرة بعد سنوات من المعاناة والدمار خلال الحرب العالمية الثانية.
تأسيس قوات الدفاع الذاتي
على الرغم من حظر المادة 9 للجيش التقليدي، إلا أن السياق الجيوسياسي تغير بسرعة مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. مع تصاعد التوترات العالمية، أصبح من الواضح أن اليابان بحاجة إلى وسيلة للدفاع عن نفسها في حال وقوع أي تهديد. في عام 1954، تم إنشاء “قوات الدفاع الذاتي اليابانية” (JSDF) كبديل عن الجيش التقليدي.
قوات الدفاع الذاتي ليست جيشًا بمعناه الكامل. وفقًا للقوانين اليابانية، تقتصر مهمتها على حماية الأراضي اليابانية من الهجمات الخارجية والمساهمة في العمليات الإنسانية والإغاثية. ومع ذلك، فإن هذه القوات مجهزة تجهيزًا عاليًا وتعتبر واحدة من أكثر القوى العسكرية تقدمًا من الناحية التكنولوجية في العالم، على الرغم من قيودها القانونية.
الدور الأمريكي في الأمن الياباني
جزء آخر مهم من سبب عدم امتلاك اليابان لجيش تقليدي هو الاتفاق الأمني بين اليابان والولايات المتحدة. بعد انتهاء الاحتلال الأمريكي في عام 1952، وقع البلدان معاهدة أمنية تُعرف باسم “معاهدة التعاون الأمني والدفاعي بين اليابان والولايات المتحدة”. وفقًا لهذه المعاهدة، تعهدت الولايات المتحدة بالدفاع عن اليابان في حال تعرضها لأي هجوم.
حتى اليوم، تستضيف اليابان حوالي 50 ألف جندي أمريكي في قواعد عسكرية منتشرة في جميع أنحاء البلاد. تُعتبر هذه القواعد جزءًا لا يتجزأ من الأمن الياباني والإقليمي، إذ تعمل كقوة ردع ضد أي تهديد محتمل، خاصة من دول مثل كوريا الشمالية والصين.
التحديات الأمنية المعاصرة
على الرغم من أن اليابان لا تزال رسميًا دولة بلا جيش، إلا أن الوضع الأمني العالمي تغير كثيرًا منذ خمسينيات القرن الماضي. خلال العقود الأخيرة، ظهرت تحديات جديدة مثل الصعود العسكري للصين، تهديدات كوريا الشمالية النووية، وعدم الاستقرار الإقليمي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
هذه التطورات دفعت اليابان إلى إعادة تقييم موقفها الأمني والدفاعي. في السنوات الأخيرة، قامت الحكومات اليابانية بتفسير المادة 9 بشكل أكثر مرونة، مما سمح لقوات الدفاع الذاتي بالمشاركة في مهام أكثر تنوعًا. على سبيل المثال، يمكن الآن لقوات الدفاع الذاتي المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية والمساعدة في الدفاع عن حلفائها إذا تعرضوا لهجوم.
في عام 2015، أقر البرلمان الياباني قوانين جديدة مثيرة للجدل تُعرف باسم “قوانين الأمن”، والتي تسمح لليابان بممارسة “الدفاع الجماعي عن النفس”.