يُعد كتاب “Inward Bound: Of Matter and Forces in the Physical World” للمؤلف أبراهام بايس (Abraham Pais). واحدًا من أهم الكتب التي تسلط الضوء على تطور الفيزياء الحديثة، وتتناول بالتحليل العميق كيف تغيرت مفاهيمنا حول المادة والقوى التي تحكم الكون. يتتبع الكتاب مسيرة الفيزياء من نهايات القرن التاسع عشر وحتى النصف الثاني من القرن العشرين، موضحًا كيف أحدثت الاكتشافات العلمية ثورةً في فهمنا للعالم المادي.
إن كنت من عشاق الفيزياء أو ممن يهوون قراءة الكتب العلمية العميقة، فهذا الكتاب سيكون بمثابة كنز معرفي، حيث يدمج بين التفاصيل التاريخية والسرد العلمي، ويقدم رؤية شاملة لكيفية نشوء المفاهيم الكبرى مثل ميكانيكا الكم والنظرية النسبية وفيزياء الجسيمات.

لمحة عن المؤلف: أبراهام بايس
قبل أن نتعمق في تفاصيل الكتاب، من المهم أن نلقي نظرة على مؤلفه، أبراهام بايس، وهو عالم فيزياء نظرية ومؤرخ علمي بارز. ولد بايس في عام 1918 وعمل إلى جانب عمالقة الفيزياء في القرن العشرين، مثل ألبرت أينشتاين ونييلز بور. لم يكن مجرد فيزيائي بارع، بل كان أيضًا مؤرخًا عميق الفهم، حيث كرس جزءًا كبيرًا من حياته لتوثيق التطورات الهائلة التي شهدتها الفيزياء خلال النصف الأول من القرن العشرين.
يتميز أسلوبه في الكتابة بالدمج بين السرد العلمي الدقيق والرؤية التاريخية الواسعة، ما يجعل قراءته ممتعة ومثرية في آن واحد. كما أنه يُعرف بكتاباته الأخرى حول حياة أينشتاين، مثل كتابه الشهير “Subtle is the Lord”، الذي يعتبر أحد أكثر الكتب توثيقًا لحياة وإنجازات أينشتاين.
ملخص لمحتوى الكتاب
يركز “Inward Bound” على التطورات العلمية التي أدت إلى نشوء الفيزياء الحديثة، وخاصة ما يتعلق بالبنية العميقة للمادة والقوى التي تحكمها. يتتبع الكتاب رحلة الفيزياء من مرحلة الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الحديثة، مع التركيز على المحطات التالية:
- أزمة الفيزياء الكلاسيكية: كيف بدأت التساؤلات حول حدود الميكانيكا الكلاسيكية في أواخر القرن التاسع عشر.
- ظهور ميكانيكا الكم: كيف قلبت مفاهيم مثل تكميم الطاقة والموجات المادية مفاهيمنا السابقة.
- النظرية النسبية: تأثير أينشتاين على فهمنا للزمان والمكان والطاقة.
- الثورة في فيزياء الجسيمات: كيف تم اكتشاف الجسيمات الأولية وما الذي كشفته عن بنية الكون العميقة.
- القوى الأساسية في الطبيعة: الدور الذي لعبته النظريات الموحدة في تفسير القوى الأربع الأساسية (الجاذبية، الكهرومغناطيسية، القوة النووية الضعيفة، والقوة النووية القوية).
- تأثير هذه الاكتشافات على الفلسفة والعلم الحديث: كيف غيرت هذه التطورات رؤيتنا للعالم.
تفاصيل وتطورات الفيزياء من خلال الكتاب

1. أزمة الفيزياء الكلاسيكية
في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الفيزياء تبدو علمًا مكتملًا تقريبًا، حيث بدا أن قوانين نيوتن وقوانين الديناميكا الحرارية والكهرومغناطيسية لماكسويل تقدم تفسيرًا شاملًا لكل الظواهر الطبيعية. لكن سرعان ما بدأت تظهر مشكلات لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية حلها.
إحدى هذه المشكلات كانت إشعاع الجسم الأسود، حيث توقعت الفيزياء الكلاسيكية أن الجسم الأسود يجب أن يشع طاقة لانهائية عند الترددات العالية، وهي كارثة تُعرف بـ الكارثة فوق البنفسجية. جاء ماكس بلانك بحل ثوري، حيث اقترح أن الطاقة ليست مستمرة، بل تأتي على شكل حزم صغيرة تُسمى “الكوانتا”، وهو المفهوم الذي مهد لميكانيكا الكم.
2. ولادة ميكانيكا الكم
في العقدين الأولين من القرن العشرين، بدأت الفيزياء تأخذ منحىً جديدًا تمامًا مع ظهور ميكانيكا الكم، التي أدت إلى استبدال القوانين الكلاسيكية بمفاهيم غير مألوفة.
- ألبرت أينشتاين (1905) أظهر أن الضوء نفسه يأتي على شكل كُميات صغيرة من الطاقة تُعرف بالفوتونات، مما يفسر الظاهرة الكهروضوئية.
- نيلز بور قدم نموذجه الذري، الذي افترض وجود مدارات محددة للإلكترونات حول النواة، حيث لا يُسمح لها بالتواجد في أي مكان آخر.
- فيرنر هايزنبرغ وإرفين شرودنغر طوّرا معادلات ميكانيكا الكم التي تصف كيف تتحرك الجسيمات بطريقة احتمالية وليس بطريقة حتمية كما في الفيزياء الكلاسيكية.
من خلال هذه الثورة، أصبح واضحًا أن العالم المجهري تحكمه قوانين مختلفة تمامًا عن تلك التي تحكم العالم الكبير الذي نراه بأعيننا.

3. النظرية النسبية
قبل عام 1905، كان يُعتقد أن المكان والزمان كيانان ثابتان ومطلقان. لكن أينشتاين غير هذا المفهوم بالكامل من خلال النظرية النسبية الخاصة، التي أوضحت أن الزمن والمكان مترابطان، وأن سرعة الضوء ثابتة لكل المراقبين بغض النظر عن حركتهم.
ثم جاءت النظرية النسبية العامة (1915)، حيث أعاد أينشتاين تعريف الجاذبية ليس كقوة كما تصورها نيوتن، بل على أنها انحناء في الزمكان نتيجة لوجود الكتلة والطاقة.
أحدثت هذه النظريات تحولًا جذريًا في فهمنا للكون، وكان لها آثار عميقة على مجالات مثل علم الفلك والكونيات، حيث تفسر كيف تعمل الثقوب السوداء وكيف يتمدد الكون.
4. فيزياء الجسيمات والقوى الأساسية
مع تقدم القرن العشرين، بدأت الأبحاث تكشف عن عالم أصغر بكثير من الذرات، حيث تم اكتشاف البروتونات، النيوترونات، والإلكترونات، ثم تبعها اكتشاف المزيد من الجسيمات الأولية مثل الكواركات واللبتونات.
وبدأت تظهرالحاجة إلى تفسير كيفية تفاعل هذه الجسيمات مع بعضها البعض، فتم تطوير النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، الذي يصف ثلاث قوى أساسية:
- القوة الكهرومغناطيسية (التي تحكم تفاعل الجسيمات المشحونة).
- القوة النووية القوية (التي تربط الكواركات معًا داخل البروتونات والنيوترونات).
- القوة النووية الضعيفة (التي تؤدي إلى تحلل بعض الجسيمات المشعة).
أما الجاذبية، فلم يكن لها وصف موحد داخل هذا النموذج، وهو ما لا يزال يمثل تحديًا فيزيائيًا حتى اليوم.
أهمية الكتاب وتأثيره
يعد كتاب “Inward Bound” مصدرًا أساسيًا لكل من يريد فهم كيف تطورت الفيزياء الحديثة، حيث يروي القصة بأسلوب شيق يجمع بين الدقة العلمية والسرد التاريخي. يسلط الضوء على كيف تم اكتشاف المفاهيم الفيزيائية الكبرى، ويوضح أن العلم هو عملية ديناميكية، مليئة بالتحولات والتحديات.
سواء كنت مهتمًا بتاريخ العلم، أو تبحث عن مقدمة عميقة للفيزياء الحديثة، فهذا الكتاب يوفر لك رؤية متكاملة حول كيف غيرت هذه الاكتشافات فهمنا للعالم.
اقرا ايضا: كتاب على الصخور: علوم الأرض للجميع “On the Rocks: Earth Science for Everyone”