كتاب ما هي الحياة؟ (What is Life?) هو واحد من الأعمال الفكرية التي تركت أثرًا عميقًا في مجال العلوم والفلسفة. ألفه عالم الفيزياء النظرية النمساوي الشهير إرفين شرودنغر في عام 1944. يتناول الكتاب موضوعًا فلسفيًا وعلميًا محوريًا يتمحور حول السؤال الأساسي: “ما هي الحياة؟” من خلال تحليل علمي دقيق وفلسفي عميق.
يُعتبر الكتاب محاولة طموحة من عالم فيزياء لإعادة صياغة فهمنا للحياة من خلال عدسة الفيزياء والكيمياء، وهو ما أدى لاحقًا إلى التأثير على تطوير مجالات متعددة، من علم الأحياء الجزيئي إلى البيولوجيا الحديثة. في هذا المقال المفصل، سنأخذك في رحلة عبر محتويات الكتاب، الأفكار الرئيسية التي يطرحها، والأثر الذي تركه في عالم العلوم.
كتابة الكتاب
ظهر كتاب ما هي الحياة؟ في وقت كانت فيه أوروبا تغرق في الحرب العالمية الثانية. كانت العلوم في تلك الفترة تسعى لفهم أعمق للطبيعة، وكانت هناك رغبة متزايدة في ربط العلوم الفيزيائية والكيميائية بعلم الأحياء. شرودنغر، الذي كان مشهورًا بمساهماته في ميكانيكا الكم، بدأ يتساءل عن كيفية تفسير الظواهر البيولوجية باستخدام القوانين الفيزيائية.
في تلك الفترة، لم يكن علم الأحياء الجزيئي متطورًا كما نعرفه اليوم. كانت المعلومات حول الحمض النووي (DNA) لا تزال غير مكتملة، ولم يكن معروفًا كيف يتم نقل الصفات الوراثية. أراد شرودنغر أن يقدم رؤية علمية تساعد على فهم العمليات التي تجعل الحياة ممكنة، وأن يربط بين الفيزياء والكيمياء لفهم تعقيد الكائنات الحية.
البنية الأساسية للكتاب
ينقسم الكتاب إلى سلسلة من الفصول، كل منها يستكشف جانبًا معينًا من الحياة:
- نظام الديناميكا الحرارية والأحياء: في هذا الفصل، يركز شرودنغر على مبدأ النظام والتنظيم في الكائنات الحية. يشير إلى أن الكائنات الحية تبدو وكأنها تتحدى القوانين التقليدية للديناميكا الحرارية، حيث تحافظ على نظامها الداخلي رغم الفوضى التي تميز البيئة الخارجية.
- الجينات والتركيب الجزيئي: يقدم شرودنغر فكرة مبتكرة حول الجينات باعتبارها “كريستالات متناهية الصغر” تخزن المعلومات الوراثية. كان هذا التصور سابقًا لعصره، حيث تنبأ بأن الجينات هي المسؤولة عن نقل المعلومات الوراثية بدقة عبر الأجيال.
- الانتروبيا السلبية: واحدة من أكثر المفاهيم شهرة في الكتاب هي مفهوم “الانتروبيا السلبية”، حيث يشير شرودنغر إلى أن الكائنات الحية تتغذى على الانتروبيا السلبية من أجل الحفاظ على حالتها المنظمة.
- الرؤية المستقبلية للبيولوجيا: ينتهي الكتاب بتأملات حول كيف يمكن للفيزياء والكيمياء أن تفتح آفاقًا جديدة في دراسة الحياة، داعيًا العلماء إلى البحث عن قوانين جديدة لفهم التعقيد البيولوجي.
الجينات والكريستال اللا دوري
من أبرز إسهامات الكتاب هو وصف شرودنغر للجينات بأنها “كريستالات لا دورية”. في وقت كتابة الكتاب، كان مفهوم الحمض النووي والجينات لا يزال في مراحله الأولى، ومع ذلك استطاع شرودنغر تقديم تصور قريب بشكل مذهل من الحقيقة. يشير مصطلح “الكريستال اللا دوري” إلى أن الجينات تمتلك بنية منظمة ومعقدة لكنها ليست متكررة أو عشوائية، مما يسمح لها بتخزين كميات هائلة من المعلومات الوراثية.
هذا الوصف ألهم علماء الأحياء والفيزيائيين لاحقًا، مثل فرانسيس كريك وجيمس واطسون، الذين اكتشفوا بنية الحمض النووي الحلزونية المزدوجة. يُعتبر هذا المفهوم حجر الأساس في علم الأحياء الجزيئي الحديث.
الحياة والديناميكا الحرارية
أحد المواضيع الرئيسية التي تناولها شرودنغر هو كيفية فهم الحياة من منظور الديناميكا الحرارية. أشار إلى أن الكائنات الحية تحافظ على نظامها الداخلي من خلال “تغذية الانتروبيا السلبية”، أي استهلاك الطاقة من البيئة وتحويلها إلى أشكال أكثر تنظيمًا.
هذا المفهوم ألقى الضوء على فكرة أن الكائنات الحية ليست في حالة توازن ديناميكي مع بيئتها، بل هي في حالة مستمرة من التفاعل مع المحيط لتجنب الفوضى أو الموت. هذه الرؤية شكلت الأساس لفهم العمليات البيوكيميائية التي تحدث داخل الخلايا.
التأثير الفلسفي للكتاب
لم يكن كتاب ما هي الحياة؟ مجرد عمل علمي، بل كان أيضًا يحمل بعدًا فلسفيًا عميقًا. تساءل شرودنغر عن طبيعة الحياة وما يجعل الكائنات الحية مختلفة عن المادة غير الحية. كان يرى أن الحياة يمكن فهمها من خلال قوانين الفيزياء، لكنه أقر أيضًا بأن هناك جوانب من الحياة قد تكون خارجة عن الفهم العلمي التقليدي.
هذه التأملات ألهمت العديد من الفلاسفة والعلماء لإعادة التفكير في العلاقة بين الحياة والعلم. كما أثار الكتاب نقاشات حول الحرية والإرادة والوعي، مما جعله عملًا متعدد الأبعاد.
الإرث العلمي للكتاب
ترك كتاب ما هي الحياة؟ تأثيرًا عميقًا على الأوساط العلمية. ألهم الكتاب جيلًا من العلماء للعمل على دراسة الجينات والحمض النووي، مما أدى إلى ثورة علم الأحياء الجزيئي. يُنسب الفضل إلى شرودنغر في تحفيز العديد من الاكتشافات المهمة، بما في ذلك اكتشاف بنية الحمض النووي.
علاوة على ذلك، فتح الكتاب الباب أمام تعاون بين الفيزياء وعلم الأحياء، وهو ما نراه اليوم في مجالات مثل البيوفيزياء والبيولوجيا الحسابية. أصبحت رؤية شرودنغر حول استخدام الفيزياء لفهم الحياة نموذجًا يُحتذى به في البحث العلمي متعدد التخصصات.
النقد والتحديات
رغم تأثيره الكبير، لم يسلم الكتاب من النقد. يرى بعض العلماء أن شرودنغر تبسط في تفسيره لبعض الظواهر البيولوجية. كما أن كتاباته كانت أحيانًا تتسم بالغموض، مما جعل بعض الأفكار مفتوحة للتأويل. ومع ذلك، فإن هذه النقاط لا تقلل من قيمة الكتاب كرؤية استشرافية ساهمت في تغيير مسار العلوم.
ما هي الحياة؟
بعد مرور عقود على نشر الكتاب، لا تزال أفكاره ذات صلة بالعلوم الحديثة. اليوم، نستطيع أن نرى كيف أصبحت رؤى شرودنغر حقيقة واقعة. علم الأحياء الجزيئي يواصل الكشف عن تعقيد الكائنات الحية، ويظل الكتاب مصدر إلهام للعلماء والفلاسفة على حد سواء.
في السياق الحديث، يتساءل العلماء عما إذا كانت هناك حياة على الكواكب الأخرى، وما إذا كانت القوانين الفيزيائية التي تحكم الحياة على الأرض تنطبق على أشكال الحياة خارج كوكبنا. في هذا الإطار، تُعتبر أفكار شرودنغر نقطة انطلاق لفهم أعمق للوجود.
كتاب ما هي الحياة؟ ليس مجرد كتاب علمي، بل هو رحلة فكرية عميقة تجمع بين الفيزياء، والكيمياء، والفلسفة، للإجابة عن سؤال مركزي حول طبيعة الحياة. إرفين شرودنغر استطاع من خلال هذا العمل أن يفتح آفاقًا جديدة في العلوم، وأن يلهم أجيالًا من العلماء لاستكشاف أعماق الحياة.
رغم مرور أكثر من سبعين عامًا على نشره، لا يزال الكتاب يحتفظ بمكانته كواحد من أعظم الأعمال الفكرية التي جسدت التداخل بين العلوم والفلسفة. إذا كنت تبحث عن عمل يشعل شرارة التفكير العميق، فإن ما هي الحياة؟ هو بلا شك اختيارك الأمثل.
اقرا ايضا: كتاب “جودل، إيشر، باخ” / ” Godel, Escher, Bach” رحلة عبر العقول والأنظمة